إحياء القيم والمواقف

ثقافة 2023/09/10
...

   زهير كاظم عبود 


كما يتوسع الاختلاف في مكان دفن رأس الإمام بين موضع الرأس في الجامع الأموي أو في مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، وإذا كان الإجماع على يوم الاستشهاد في العاشر من محرم الحرام 61 للهجرة، فإنَّ الخلاف قائمٌ على مكان عودة الرأس، وفي جميع الأحوال فإنَّ التمسك بالمنهج الحسيني حالة من حالات الارتقاء والسمو الإنساني، واستعادة الاستذكار يبرهن ويوضح المكانة السامية لهذا الحدث، ومنذ مئات السنين تمسكت الناس بيوم الأربعين الموافق العشرين من صفر في كل عام، تحيي به موقفها المساند للثورة وتمسكها بالمنهج، ولعلَّ المناسبة أيضاً توحد الموقف وتعيد الوعي ليعيش الناس حياة آمنة تليق بهم وتكفل كرامتهم وحقوقهم المشروعة مثلما أراد الحسين بن علي بن ابي طالب (ع).

ولعلَّ الرقم (40) يشكل دلالة كبيرة في التاريخ القديم والحديث، وبغض النظر عن هذا الاختلاف فإنَّ زيارة ضريح الإمام الحسين (ع)، تعدُّ استحباباً كما يقول الشيخ الحر العاملي في كتاب "الوسائل"، وللمكانة المتميزة للإمام الحسين عند المسلمين، فإنَّ ما تركه من موقفٍ شجاعٍ وثابتٍ متحدياً سلطة الطغيان والبغي، ليرسم لنا منذ بواكير تشكيل السلطات الإسلامية موقفاً معارضاً، ناسفاً قدرة السلطة وجيوشها على إخضاع المعارض أو إجباره أو إذعانه لوسائلها وسبلها، ولعلَّ الزيارة في كل الأيام تدلُّ دلالة أكيدة على التمسك بالمنهج الثابت الذي طرحه الإمام الحسين "ع"، ويفترض أنَّ الزائر والمتبحر بوقائع التاريخ والمتبصر بالأحداث أنَّ درجة الوعي الديني والثقافي والسياسي عالية، وأنَّ طريق ثورة الحسين بن علي (ع) لم يكن قاصراً على فترة حكم يزيد بن معاوية فقط، بل تمتد مفاهيم الثورة مع امتداد كل السلطات الطاغية، والتي تستعمل أساليب القسوة والإرهاب في معالجة قضايا المعارضة.

وصورة الثورة الحسينيَّة التي خطّها الإمام، وهو يقدم روحه فداءً للموقف المعارض، ستبقى مشعَّة على كل الأجيال ولزمنٍ طويل، ولا تقتصر تلك الثورة على منطقة الشرق الأوسط أو البلاد الإسلاميَّة فقط، فقراءة التاريخ بوعي وبدقة تدفع المتابع للتدقيق في معاني الثورة، التي كانت تستند إلى عدم مبايعة الحاكم، لعدم مؤهلاته وعدم صلاحيته، لأنْ يكون حاكماً لكل الشعب، ولا شك أنَّ التاريخ من الموضوعات المهمَّة التي تعتمد عليها الأمم في معرفة ماضيها، وتستعرض خلالها الأحداث التي مرَّت عليها لما لذلك من أهمية ليس فقط في ثبات الحقيقة التاريخيَّة أو الاستذكار وأخذ العبرة من أحداث الماضي، إنما يشكل عِلمُ التاريخ حيزاً مهماً في التطور الثقافي العام للشعوب، كما شكلت العوامل التي تدفع للكتابة في التأريخ اتصالاً وثيقاً مع باقي الاتجاهات، والتيارات المؤثرة في المجتمعات بشكلٍ عامٍ والعربي منها بشكلٍ خاصٍ في تكوين بناء الجسم الثقافي العام.

ولعلّ ثورة الإمام الحسين وما تعرض له أهل البيت "ع" من تنكيلٍ وتشهيرٍ، يدلُّ على منهج الحاكم الطاغية وحقيقة السلطة، وبهذا فإنَّ الإطار العام للزيارة يؤكد المسلم من خلاله أنَّه يتمسك بمنهج رفض الظلم والاستعباد، والثبات على الموقف كما وقف الإمام الحسين، وموقف الحسين الرافض للحكم وهو يلمس عدم الاستقامة، وعدم وجود أي حقٍ يؤهل الحاكم لتبوؤ مركز الحكم، وحق التعارض هو حقٌ إنسانيٌ قبل أنْ يكون حقاً دينياً، فقد ساندته جميع الشرائع التي حلت على البشر، والتعارض أخذ أشكالًا متعددة، وتأخذ المعارضة أحياناً فعلاً ثورياً يأخذ شكل الانتفاضة والحركة العسكريَّة المسلحة منها أو الرمزيَّة، وتشكل رمزيَّة زيارة الأربعين، التي يتمسك بها الموروث الشيعي بوصفها عودة الرأس الشريف إلى الجسد الذبيح، وما يرافق تلك الرمزيَّة من تعبيرٍ عفوي أو طقسي، فإنَّه في جميع الأحوال يشكلُ ظاهرة تجمع وتوحد القلوب والنفوس لاستعادة موقف الإمام وإحياء جذوة الثورة الحسينيَّة، وهي ليست مناسبة عاديَّة أو زيارة تقليديَّة، إنما تمرُّ على المجتمع لإحياء القيم والأخلاق والمواقف الإنسانيَّة والدينيَّة والتاريخيَّة التي تصقل حياة البشر.