د. جبار خماط حسن
من فرضيات التفكير المأساوي لدى الإنسان، تفكره بالموت، إذ يبقى متمسّكا بالحياة لأنّها مشروع دائم لم يكتمل، نجده يتناسى الموت وليس نسيانه، لأنّه إن بقيَ في فكرة الموت ورعبها، توقف الفعل البشري ولم تتقدم الحياة.
هكذا نجد الانسان ابتكر فعلا دفاعيا في مواجهة الموت، اطلق عليه تسمية (تناسي الموت) أي قصدية تأجيل حضوره بإرادة العمل. حتى أن الفيلسوف الفرنسي (ادغار موران) يردد قوله “أحمق من يفكر بالموت أحمق من يفكر .. فالتفكير بالموت صناعة له!، ولهذا حسنًا فعل الكاتب مثال غازي حين أكّد على تمسك الانسان بفكرة استمرارية حياته، اذ يقول “الحياة أجمل من ان نفكر في مغادرتها، فلا أحد هنا، يفكر في مغادرتها طوعا او اختيارا، فكل الذين يغادرونها، عيونهم معلقة عليها”، إنّنا نجد الرجل البدائي واجه الموت بفكرة لخصت وجوده بعالم ثانٍ لا يفنى، خالد رمزا وليس واقعا، الجميع متمسك بالحياة، لكنّه بإرادته يفقدها، حين يُلبي نداء الوطن للدفاع عنه!، لهذا نجد اسامة السلطان مخرج العرض المسرحي (عزرائيل) يبين لنا علاقته بالموت قائلا “فكرة الموت رهيبة، أنام الآن ثمَّ لا أصحو أبدا.. أن تكون هذه آخر علاقتي بضوء الشمس والأسرة والاصدقاء والمسرح.. لكنه حق”.
من هذه الافكار انطلقت حياة العرض المسرحي (عزرائيل) تأليف مثال غازي واخراج اسامة السلطان على خشبة مسرح الرشيد 1/9/2023 بفرضية تتلخص بالآتي: عبث الحياة وجدوى الموت.
يظهر لنا ملك الموت أنيقا، يتجول في المكان، يتأخر في قبض روح المرأة، حوار فائض عن حاجة عزرائيل، فهو موكل بإتمام المهمة، تنغلق أبواب السماء، يبقى (عزرائيل) في الارض يجدها موحشة، لا تستحق البقاء فيها مدة أطول، تنفتح ابواب السماء، يذهبان معا في رحلة ما بعد الموت .
عرض مسرحي تحقق فيه اجتهاد درامي من لدن كاتب ماهر مثال غازي، ومخرج اسامة السلطان، اوجد لنا عرضا مسرحيا، من دون زوائد واستطالات، حساب متقن الايقاع، ملاحقة للفكرة المتحكمة بالعرض (جدليّة الموت والحياة ) في أنساق بصريّة وسمعيّة وحركيّة، فلا تعقيد في الصورة المسرحية، انسياب للأحداث وتحولاتها على نحو يسير تفاعل معه الجمهور، شخصيتان عاشتا في بيئة متحولة (غرفة الملابس، مكان عزرائيل في السماء، الشارع العمومي) ثلاث أمكنة أعطت للأداء جغرافيا انفعالية غير مستقرة، لأنّها تتراوح بين الهدوء والانفعال والصمت، تتناسب مع شكل ونمط البيئة المحيطة بالشخصيتين/ المرأة الممثلة وعزرائيل.
أظهر العرض المسرحي (عزرائيل) سينوغرافيا انيقة من دون ثرثرة بصرية، تعمل بفاعلية الاضاءة وانقسام المنظر الى مستويين يعمل بتدخل بشري/ المجموعة التي نجدها الفاعل السببي لافتتاح البيئة وانغلاقها.
للتمثيل افقه الابداعي في العرض، تنافس عليه كلا الممثلين بشرى اسماعيل وجاسم محمد، سجال جمالي اكسب العرض حضوره واثره، في حساب ادائي، صوتيا وحركيا، لغة سليمة وجرس ايقاعي لانغام الكلام، محسوب بعناية تتناسب مع الحالات الوجودية للمرأة/ التمسك بالحياة. يقابلها مندوب الموت السامي/ عزائيل الذي يستعجل مهمة قبض الأرواح، لكنه يتأخر مع المرأة. مما اوجب لعبا ادائيا ثنائيا، اظهر احساسا في الانتقالات بين الواقع واللاواقع، الفكرة ونقيضها، من هذا التداخل، تفاعل الجمهور مع المعادلة الجمالية المتصاعدة ما بين بشرى اسماعيل وجاسم محمد مع تناغم بيئي للمجموعة اظهرت احساسا جماعيا من حولها، بحساب ايقاعي ورقابة ذهنية لعلامات الجسد والصوت .
(عزرائيل) عرض مسرحي يعمد مخرجه أسامة السلطان الى فن النقيض الجمالي في التكوين وصناعة الاداء ومراقبة عمل السينوغرافيا، اتصال وانفصال ما بين الذات والآخر، وما يحيطهما من بيئة تحليليّة، تتفكك حينا وتتركب حينا آخر، يحدد هذا المسار المزدوج الحركة والدلالة، رؤية إخراجية لفكرة الموت وتأجيل تنفيذه لدى (عزرائيل).
هكذا تفاعل الجمهور في مساحة الانتباه وهيمنة الصمت، مراقبا ما يحصل من تحولات في فكرة الموت، بين الاعلان عنها، والعزوف أو الامتناع عن تنفيذها، ثنائية تفاعل معها الجمهور، بسبب الادارة الذكية للفعل الاخراجي في استثمار فكرة العرض وكيفية معالجتها فنيا، مقاربة ناجحة كسرت أفق توقعه أزاء ما يحصل من مقولتي الحياة والموت.