نيلز هاو: القصيدة الجيدة هديَّة من أرواح تحكم الكون

ثقافة 2023/09/12
...

 حاورته: فليحة حسن

«يعد الشاعر نيلز هاو، واحدا من الشعراء الأحياء الأكثر موهبة في الدنمارك» وبحسب ما كتبه الناقد فرانك هيجوس، في إحدى المراجعات الأدبية، وهو مؤلف لعشرة مجلدات نثرية وشعرية، ترجمت كتبه إلى العديد من اللغات بما في ذلك البرتغالية والهولندية والعربية والتركية والإنجليزية والصربية والكردية والألبانية والفارسية، وما زالت قصائده وقصصه تنشر في عدد كبير من المجلات والصحف العالمية، وقد أجرت معه وسائل الإعلام مقابلات متكررة، وهو دائم السفر الى أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ونيلز هاو يقيم الآن في الجزء الأكثر حيوية من العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، ومن أحدث كتبه «لحظات السعادة».
* إذا أمكنكَ أن تلخّصَ حياتكَ في قصيدة فماذا ستقول؟:  
- هذا سؤال مهم، شكرًا جزيلاً لكِ، أهم قصيدة يكتبها أيٌّ منّا في حياته، حياتي/ حياتكِ هي الحياة نفسها التي نعيشها، فقد كُتبتْ مباشرة في جسد العالم، ومن دون كلمات، وهي تتحدثُ عن علاقاتنا الوثيقة مع من نُحب، وخُطتْ بحب وعناية، أما الكلمات فهي فقط مجردات، ولكن إذا أردتُ أن ألخصَ حياتي في قصيدة واحدة، فربما ستكون هذه القصيدة ساخرة:
(يمكن للمرء أن يقضي حياة كاملة
في رفقة الكلمات، من دون أن يدركَ الصحيحة منها،
مثلَ سمكة مسكينة
ملفوفة بجريدة هنغارية
فهي أولاً ميّتة
وثانياً لا تفهم الهنغارية).

* بين ما كتبتهُ أول مرة، وما تكتبه الآن أعوام عديدة متواصلة من الإبداع، فإذا أمكنكَ أن تعود في الزمن الى بداياتكَ الكتابيَّة الأولى، فهل ستمحو الكثير منها؟
- لا أعتقد أنّني سأقوم بذلك، فعندما كنتُ صغيراً، كنتُ ساذجاً وبريئاً، والآن أودُّ أن أبقى على اتصال بسذاجتي القديمة تلك، في الواقع، الحياة رحلة مليئة بالمفاجآت، وأخطاؤنا هي الشيء الوحيد الذي نتعلم منه، علاوة على ذلك، فإنَّ كلَّ ما يكتبهُ المرء هو جزءٌ من محادثة واسعة النطاق مع الشعراء الأحياء منهم والأموات حول مسلّمات أساسية، فقبل ثلاثين عاماً، كان هناك إيمان مشترك، وواسع النطاق بمستقبل أكثر سلماً مع التطور الدولي والسلام بين الأمم.
وبعد سقوط سور برلين في عام 1989، نشأ لديَّ شعورٌ بأنّنا سنعيش في أرض جديدة يعمّها السلام والحرية، ثم اتّضح لي فيما بعد أن ذلك الشعور هو نوع من السذاجة، لكن الحلم بقيَّ حقيقياً وجميلاً، وهذا هو الأمر الضروري والمهم، الذي يجب علينا ألا نتخلى عنه أبدًا، لذا فإنّني سأبقى مع السُّذج الذين يحلّمون ويأملون.

* هل التجارب العميقة وحدها هي التي تولد قصائد عظيمة، أم أن تجارب الحياة اليوميّة هي الأكثر قدرة على تأجيج جذوة الشعر؟
- في اعتقادي أن أفضل القصائد هي أكثر حكمة من كاتبها، فالشعر يولد من نوع من ضرورة داخلية، إنّه الغموض، فنحن كائنات ومخلوقات مادية تعيش في أجسام ذات بشرة رقيقة، يمكننا أن نتصلَ ونتواصل مع بعضنا بعضاً، وكذلك يمكننا أن نتلامس جسديًا، ولكن مع اللغة هناك إمكانية اتصال روحي أعمق، فالقصيدة الجيدة هي هدية من الأرواح التي تحكم الكون؛ لذا فإنّ أفضل القصائد هي الأكثر حكمة من الشاعر نفسه.
الفن يحتوي على رؤى جماعية، وعقل الشاعر ويدّه مجرد أدوات للروح الجماعية، والحكمة المشتركة، وأفضل القصائد هي التي تضع الكلمات لتلك التجارب الجماعية.

* بعض الشعراء يتجنب ترجمة نتاجه الشعري، وحجته في ذلك خوفه على ضياع معنى وفحوى قصيدته بعد الترجمة، فهل ترددتَ يوماً في ترجمة قصيدتك الى لغة ما؟، وهل فعلاً يفقد الشاعر قصيدته حين تتم ترجمتها؟
- الخوف دليل العاجز، والترجمات تعدُّ ضرورية، ولا بدَّ للقصائد أن تسافر، وتلتقي بقرّاء آخرين في قارات أخرى، خاصة عندما تكون تلك القصائد مكتوبة بلغة قليلة الانتشار مثل اللغة الدنماركية.
 إنَّ ترجمة قصائدي لا تجعلني أشعر بالتوتر، بل يبدو لي الأمر وكأنني وِلدتُ من جديد، فالقصائد تولد من جديد بلغات أخرى.
عالمنا يحتوي على عدد كبير من اللغات، والحروف الهجائيّة، ونحن الأوروبيين محصورين في الأبجدية اللاتينية، لكن العرب والصينيين، وغيرهم من الأمم، لديهم أبجديات أخرى.
من الرائع وجود مثل هذه الاختلافات، وأنا سعيد كون قصائدي هربتْ من الغيتو الأوروبي، وأشعر بالفخر أن أرى تلك القصائد تولد من جديد في أبجديات أخرى.

* هناك من يعتقد أن الشاعر يبقى طوال حياته يواصل البحث عن قصيدته المنشودة التي ربما لن تأتي أبداً، فهل كتبتَ قصيدتكَ المنشودة، أم أنّكَ لما تزل تبحثُ عنها؟
- ما زلتُ أطاردها، أشعر بالفضول، وأبحث عن الكلمات الغامضة التي تفسّر أسرار وجودنا، أنا مهتمٌ بفهم ما يجري حولنا، فما نحن إلا نملٌ في عالم مطلق، نحدّق في النجوم من دون أن ندرك عظمتها.
التعجب هو سمة إنسانيّة أصيلة، أدمغتنا صغيرة جدًا، أما المعرفة الإنسانية الجماعية التي تراكمتْ على مدى عشرة آلاف سنة من قبل الفلاسفة، والعلماء، والمثقفين، فليستْ سوى قبس ضوء في لجج الظلام التي تحيط بنا.

* يقول تي أس إليوت في إحدى قصائده، (أقيس أيامي بملاعق القهوة) بماذا صار الشاعر الآن يقيس لحظات زمانه؟
- نعم، هذا بيت من قصيدة إليوت «بروفروك»، وأعتقد أن كلامه في هذه القصيدة كان تحذيراً؛ فهو كان يحذرنا من إضاعة الوقت بالروتين التافه، والقهوة، والملاعق الصغيرة.
ويطلب منّا أن نكون أكثر طموحاً، وأن نتحدى أنفسنا بإنجاز مهام أكبر، أما اليوم فهذا التحذير يتعلق بإضاعة الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي ومستهلكي وقت الآخرين.
«الحياة قصيرة، وسرعان ما نرحل عنها، دعونا نستخدم ملاعق كبيرة، وننجز شيء ما».

* في رأي الكثير من النقاد أن الشاعر هو مرآة عاكسة لتاريخ، وثقافة مجتمعه، فهل يمكن أن نطمأن لهذا الرأي، وهل يمكننا أن نرى ثقافة الدنمارك واضحة في كتاباتكَ؟ وأي القصائد هي التي اتضحتْ بها المعالم الثقافية للدنمارك بشكل جلي؟
- شكرًا لكِ، هذا سؤال مثير للاهتمام ومعقد أيضاً، فمن المؤكد أن الأدب كلّه مرآة للمكان والزمان والثقافة، ولهذه تعدُّ الثقافة الدنماركية جزءًا لا يتجزأ من الحمض النووي لقصائدي، فعلى سبيل المثال، قصيدة (نساء كوبنهاجن)، تصف رحلة بالحافلة في العاصمة الدنماركية، وفي الوقت نفسه تشارك التجربة العالمية - الجلوس على متن الحافلة والوقوع في حبّ الركاب الذين يصعدون إليها وينزلون منها. - فكوبنهاجن هي عاصمة متعددة الأعراق، والناس الذين يعيشون فيها الآن جاؤوا من جميع أنحاء العالم، بشكل عام، التسامح أمر جوهري في الثقافة الدنماركية، وجميع الألوان والثقافات مرحب بها هنا، وهذه القصيدة تحاول أن تعكس هذا التسامح الدنماركي، والتوق للقاء أشخاص جدد.

* مهمة الشاعر في العصور القديمة أن يكون الناطق بلسان حال شعبه، فهل تغير دور الشاعر الآن؟
- كل شاعر له دورهُ ورسالته، نحن نختلف، وهناك طرق عديدة للوصول إلى الشلال، لكني أعتقد أن دور الشاعر بشكل عام لم يتغير كثيراً، فمهمتهُ النبيلة لما تزل هي العثور على كلمات نعبّر بها عن حاجاتنا المشتركة، ومعاناتنا، كلمات تعبّر عن الأشواق، والأحلام المشتركة بيننا، مع ذلك فأن تَصبح المتحدث الرسمي لشعبك هو مطمح جميل.
* يقول روجر فريتس «ليس التعلم ان تحفظ الحقائق عن ظهر قلب، بل أن تعرف ماذا تفعل بها»، هل فكرتَ يوماً ماذا ستفعل بما كتبته من شعر؟
- سؤالك الأخير رائع، هناك حروب في أفريقيا، وأوروبا، مات فيها العديد من الجنود الشباب، وضاعتْ فيها أرواح النساء والأطفال بلا هدف، فإذا كان الأدب قادراً فعلاً على تغيير العالم، فلن يتطوع أحد في الجيش بعد قراءته لإلياذة هوميروس.
الناس الهاربون من بلادهم أكثر عدداً من أي وقت مضى، فالحروب والكوارث المناخية والاستغلال الذي صاحب مرحلة ما بعد الاستعمار، دفع بالناس الى القيام برحلات محفوفة بالمخاطر لعبور البحر الأبيض المتوسط.
الجنون البشري لما يزل يولد من جديد مع كلّ جيل جديد، لذلك هناك حاجة إلى الأدب والفن كدواء وحصن منيع ضد هذا الجنون العام.

* تأشيرة دخول
آملُ في توضيحٍ من الربّ ومحاميه
ما الذي يجري الآن؟
هل هناك خطة ما؟
فحينما يسرق الأغنياء الفقراء
تسمى سياسة وتجارة
وعندما يقاوم الفقراء
يطلقون عليه إرهاباً وعنفاً،
تطير الناس الى أفريقيا من أوروبا والصين والولايات المتحدة الأمريكية،
وأقداح الخمرة في أيديهم
والأفارقة يعبرون البحر المتوسط
على خطر فقدان حياتهم،  
الأشخاص الذين يساعدوننا في المطار
يدّعون موظفين ورجال أمن
الناس الذين يساعدون الفقراء كي ينخرطوا في حزب ما
ينعتونهم بتجار البشر
 تبدو الاستراتيجية الأساسية لغزاً
آملُ أن نحصلَ على توضيح
في اليوم الذي سنقف بهِ مصطفين
أمام الربّ ومحاميه!

 قصيدة نيلز هاو من ترجمة المحاورة