جودت جالي
إن كل كاتب قصص، لابد من أنه يتذكر منذ بداياته، النصيحة العامة الأولى القائلة بوجوب أن يكتب عما يعرف، وألاّ يجازف بأن يذهب بعيدا بخياله في نصوصه، وربما تبقى هذه النصيحة ضرورية وواجبة الاتباع على نحو ما، مهما كان الكاتب متمرسا وذا خيال واسع، وعلى كل حال، فإن مؤثرات الخزين المعرفي، من البيئة والثقافة والسلوك، تظهر كتحصيل حاصل على النص وصياغته وحتى في تواتر مفردات معينة. أنا أجد متعة، كقارئ، في استكشاف هذه الخلفيات.
إن مارسيل بروست، على سبيل المثال، لم يكتب إلا عن أشياء ضمن محيطه وثقافته، ومن الناحية الأسلوبية فإن ميله السردي المتدفق يظهر حتى على نصوصه القصيرة، (ترجمنا له قصة ذكرى ونشرت في جريدة الصباح)، فتبدو القصة كأنها مجتزأة من نص أطول أو من رواية من رواياته. من البديهي أن طبيعة الحياة والبيئة تنعكس على العمل الفني بصورة من الصور، وأحد جوانب عبقرية الفنان، وهو هنا الكاتب، يكمن في توظيفه لهذا الانعكاس. يحدث أن يشتغل المبدع في مهنة ككاتب سيناريو مثلا ويكتب قصصا أيضا، فيقوم بتوظيف ميزة أسلوبية في قصصه هي من ميزات السيناريو، ويبدع في هذا التوظيف بمهارته المكتسبة بالممارسة.
هذا واضح وضوحا ساطعا في القصص التي كتبها الأميركي روبيرت بريسنيل (1914 - 1986) الذي كان كاتب سيناريو، وعمل مخرجا لأعمال تلفزيونية منها (أحب لغزا) و(عرض أورسون ويليس)، كما أنه شارك في كتابة (هوليوود تقوم بهجوم مضاد) 1947 وهو البرنامج الإذاعي الذي تحدثت فيه 60 شخصية من هوليوود ضد القائمة السوداء التي جرى بموجبها فصل الكثير من الممثلين والكتاب والمخرجين من العمل، وأخذ يقدم أعمالا لزملائه الممنوعين واضعا عليها اسمه ويعطيهم الأجور، ولم يكن نشاطه محصورا ضمن قضايا داخلية، بل كان يقدم أعمالا إذاعية حول ما يشهده العالم من أزمات، وقام وزوجته الممثلة مارشا هانت، بجولات عالمية مساندة للأمم المتحدة في مساعيها لحل مشاكل الدول الفقيرة، فضلا عن أعمال كثيرة أخرى.
بعد هذه الخلاصة المفيدة كخلفية لحديثنا عنه، نعود إلى موضوعنا ونقول، لو تناولنا أعماله القصصية فإننا نلاحظ، فضلا عن أسلوب التعبير عن نظرته إلى العالم، تأثير عمله ككاتب سيناريو ومخرج في النص القصصي، والقصة التي قمنا بترجمتها هنا (الحذاء في الطريق) شاهد على ذلك. هنا نجد كل شيء حاضرا، الحركة البصرية والإثارة والتوتر وشد القارئ والوصف المشهدي. نقطة ارتكاز تدور حولها القصة، شيء، حذاء نسائي ساقط في طريق خارجي ويمر به أناس وحيوانات وردود أفعالهم على هذه الصدفة، على رؤية حذاء في الطريق الخارجي حيث وجوده غير متوقع وما يمكن أن يعنيه هذا الوجود. الأمر نفسه في قصة أخرى له بعنوان (اغتصاب خصلة الشعر)، وترتكز على دبوس شعر، وهنا أيضا، شيء ساقط على الأرض، ولكن في مكتب وأمام نظر مدير يتصوره دبوس شعر سكرتيرته، وما يبعثه فيه من تأملات ورغبات تنتهي نهاية غير متوقعة. مشهد واحد في مكان واحد وذكر لعناصر المكان المعتادة، وطبعا، الدبوس الذي سيكون المركز والموجه للحدث القصصي. بالضبط كمشهد في تمثيلية أو مسرحية فصل واحد قصيرة، ولكن في القصتين يستفيد الكاتب مما يوفره البناء القصصي له من عناصر سردية إضافة الى الحوار، وقد قرأت مثل هذا في مسرحيات قصيرة وقصص قصيرة لبرناردشو وفرانسوا مورياك. سمحت لنفسي هنا بتسمية قصص من هذا النوع بقصص المشهد الواحد.