الحذاء في الطريق

ثقافة 2023/09/13
...

روبيرت بريسنيل



ارتفعت جدران الوادي صارخة إلى السماء بتقليد متجمد لعنفها الذي كان ذائبا ذات مرة. ارتفعت ذرى مثلمة وطبقات مجنونة ودعامات لا تشبه الدعامات تسند بصبر أطنانا لا تحصى. يهمد في القمة شذر مذر الصخور على شكل تلال بنية مستسلمة ناعمة هي أقدم من أن تعطي دلالة على أنها كانت يوما جبالا متململة. إن الوادي الذي حفره مجرى المياه في الجبل كان هو الدلالة الوحيدة على الفوضى الأولية القديمة التي فجرت الجبال من الأرض كالفقاعات، وجرى مثل شق مروع عبر التلال الهادئة المتعبة منحدرا نحو البحر.

نادرا ما تغير الوادي خلال ألف عام، ولكن الآن بجانب وشل صيفي متناثر لنهر، وإلى الأعلى منه، يستقر بأمان طريق خارجي إسفلتي، يسخر من الجاذبية وأخطاء الصخور. في مكان بمحاذاة الطريق لافتة بهتت إلى بياض شاحب، تتكئ بوهن على عمودها، ذكرى تباه إعلاني منسي. وأخيرا، ليس بعيدا عن اللافتة باهتة اللون، يستقر في وسط الطريق حذاء سويدي الجلد أسود اللون عالي الكعب، وقد حمل بصبر ودوغماتية شهادةً على الوجود الحاضر للبشرية. 

تحركت بوداعة أغصان سنديانة قزمة، وظهر غزال. ارتقى جانب الطريق وتشمم الهواء، ثم، كما لو كان استجابة لإشارة، وقف غزال ثان إلى جواره. تحركا برشاقة غير مبالية مع حافة الطريق، وعندما وصلا إلى الحذاء تشمماه بعناية. وكزاه، وعضاه عضة اختبار، وأصغيا بارتباك لأصوات وراء تنهد الريح. ثم بغتة، وبلا أدنى خطأ، قفزا خارج الطريق بمحاذاة دروب ضعيفة الأثر. كانت هناك على مبعدة همهمة كسول تصاعدت، وفي النهاية جاءت سيارة حول المنحنى ومحركها يصدر أزيز ابتهاله الرتيب. رأى السائق الحذاء وابتسم. قال لزوجته :” شخص ما قضى وقتا مثيرا هنا في الليلة الماضية. هل ترين ذلك الحذاء النسائي على الطريق؟”. قالت الزوجة ملطفة معنى كلامه: “ ربما سقط من سيارة لا غير”. لم يرد السائق، فقد كان باله مشغولا بتخيل ساقين نحيلتين بجوربين نحاسيي اللون يرتفعان عاليا، وقدم تملكتها النشوة تتحرر من حذاء برفسة، والظهور المفاجئ لبياض فخذ. وشعر بغيظ حاد من صوت زوجته الواهي والرائحة المحزنة لكولونيا يوم الأحد. 

تلاشى صوت السيارة في الفضاء وعاد الوادي إلى الفراغ الزمني. ثم ركض عبر الطريق سنجاب بحيوية مجفلة متواصلة، توقف، ركض عائدا، دار حول الحذاء، انتظر، ومد أنفا فضوليا. ارتد قليلا حين مس الحذاء. لكن لم يحدث شيء، ولذا تقدم بشجاعة وتفحصه بطرف كفه القصير. عض عضة عنيفة، هز رأسه الملغّد، ثم تهادى إلى الجانب الآخر من الطريق، وهو يحرك ذيله برشاقة واختفى بين الصخور.

مرت عشر دقائق، أو عشر سنين، مقاسة بزمن الوادي، واقتربت سيارة أخرى، صاعدة المنحدر، سيارة مزينة بنجمة ذهبية ضخمة على الجانبين وبالكلمتين “قسم الشرطة”. السائق وحده، وقد سلى نفسه بما يذيعه الراديو لعدم وجود من يرافقه. رأى الحذاء وهز رأسه مستنكرا كما يجدر بشرطي: “ سواقون، مجانين، يسوقون وهم سكارى على هذه المنحنيات”، وهز مرة أخرى رأسه المليء بمعرفة  الشرطي بالحماقة البشرية، وبسلطة القوانين الواسعة التي تمنعها، وعندها، من كوة جديدة في دماغه، جاءت الفكرة: “أهي لعبة حمقاء؟”، وصار يرى مشهد جريمة انفعالية، اغتصاب وشهوة وجريمة قتل، ونقل في منتصف الليل لجثث إلى وديان لا يمر بها أحد. عندها، بلطفٍ مُرْضٍ، رأى نفسه يبدأ تحقيقاته من فردة حذاء، يجد الجثة، يتعقب الوحش المذنب الذي ارتكب هذه الجريمة بحق الأنوثة، وبعد قتال حاسم قصير، يأتي به إلى العدالة. لقد تطلب بلوغ الشرطي لهذا التوقع قطع ميل بالسيارة، وفي أول فرصة استدار بسيارته وساقها نازلا المنحدر.

انتظر الحذاء بصبر، ومقدمته تلامس الخط الأبيض في وسط الطريق، تبعثر من الجانب الصخري للوادي بعض الحصى البني بفعل سلحفاة تحركت بوهن عابرة الطريق. وصلت إلى الحذاء وتسلقته بعناية. ارتفع طرف الحذاء وانخفض، وانزلقت السلحفاة، من دون أن تعير اهتماما. واصلت سيرها عبر الطريق، وقد لطف بها القدر إذ غادرت حافة الإسفلت في الوقت المناسب قبل أن تصل عجلات السيارة المسرعة مرتفع المنحدر. رأى السائق الحذاء، وأخرج رأسه من النافذة، موجها العجلة نحوه، وسحقه. التفت إلى الفتاة الجالسة إلى جواره وقال :” أصبته. عبرت فوق الحذاء. هل ترين؟”. قالت الفتاة: “ أجل، أنت سائق ماهر يا إيدي. ألا تظن أنه يوجد في هذه الأنحاء مكان نحصل فيه على شيء نأكله؟”. ابتسم إيدي فقد وقعت عيناه المستخفتان على اللافتة البيضاء الباهتة وقال: “ أنظري إلى اللافتة التي لا تقول شيئا”. بادلت الفتاة إيدي النظر ولم ترد على كلامه، وبعدها رأى إيدي سيارة الشرطة قادمة فأبطأ السرعة على عجل. قال: “ شرطي. شرطي ملعون”. شعر بشيء من الذعر عندما رأى سيارة الشرطة تبطئ وتتوقف، وقال: “ اللعنة، أنت لا تظنين أنه سيوقفنا، هل تظنين ذلك؟”. قالت الفتاة: “ فقط إبق سائرا، وتظاهر أنك لا تعرف أنه شرطي”. قال إيدي :” لا أحب الشرطة”. تجاوز سيارة الشرطة وراقب بقلق في مرآة الرؤية الخلفية، ولكنه لم يلاحظ أنه ملاحق. 

ترجل الشرطي من سيارته، التقط الحذاء المسحوق، وتفحص الرقعة، وسجل ما قرأه في مفكرته، وأضاف عبارة “الفردة اليسرى”. ثم حدق بجدار الوادي الصخري. فكر بأنه لا يمكن أن يكون هناك أي شخص، ولهذا فإنه لو كانت توجد جثة فلن تكون إلا عند الجدول. تحرك ثقيلا بخطوات غير متزنة فوق الساتر الترابي متسائلا إن كان الأمر يستحق الاهتمام. بدا أنه يواجه مشكلة مع مؤخرته، لأنه ما فتئ ينزلق ويستقر على مؤخرته بفجاءة مربكة. ضربت وجهه أغصان السنديان الصلبة واقتطعها هو بغضب من الأشجار، بينما كان ينحدر إلى قعر الجدول. فتش بين الصخور وبين الشجيرات التحتية الشائكة لمدة نصف ساعة تقريبا، ومع التعب جاءت فكرة جديدة: ربما يضيع وقته. نظر إلى الحذاء الممسوك بيده السميكة الكبيرة، وشعر بالسخط. عندها قال: “ آوو، هراء!”، وقذف الحذاء بشكاسة طفولية إلى حشيش كثيف. ثم بصق ومسح شفتيه وكافح كفاحا منهكا لارتقاء الساتر. استدار بسيارته بصعوبة بطريقة لو أن مواطنا عاديا قام بها لسجل عليه جنحة، وساق صاعدا المنحدر وتروس ماكنته تصدر صريرا.

في تلك الأثناء عثرت نملات على الحذاء وارتقت على كل جزء مكروسكوبي منه وهي تتلوى وتنعطف في ممراتها وتصدم بعضها بعضا، ولما اقتنعت بأنه لا يوجد فيه شيء صالح للأكل تركته لعنكبوت شرع للتو ببناء بيته في موضع الإصبع المفتوح. ثم في الغسق بدأت الظلال القديمة تتخذ أماكنها المعتادة، وتلاشى إسفلت الطريق الخارجي بوداعة، وامتص الغروب اللافتة الباهتة، وعاد الوادي إلى ذاته وإلى زمنه الساكن وبلا معنى. لم تعد توجد ذكرى بأن حذاء نسائيا سويدي الجلد أسود اللون قد طرح في الطريق، أو أن سيارات مرت، أو أن إنسانا مر.


***

The shoe in the road, by Robert Presnell, JN. Esquire magazine, july 1952.