ثنائيَّة الحياة والموت وتبدياتها الجماليَّة في (عزرائيل)

ثقافة 2023/09/16
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب

تعد ثنائية الحياة والموت من أقدم الثنائيات في الوجود، فهي جوهر كينونة الإنسان في ماضيه
وحاضره، وتمثل نقيضين متعالقين، الحياة بواقعها النسبي وكيفياتها المتباينة، والموت بحتميته وغيبيته
وحقيقته المطلقة، وشاع العمل على تلاوين هذه الثنائيَّة في المشغل المسرحي العراقي ما بعد 2003
حين ازدادت حدة الصراع وأصبحت أكثر عنفا على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، مما أعطى وفرة لتجسيد وتبني هذه الثنائية وعكسها في الأشكال والمضامين الدرامية، نصيا وإخراجيا بشكلً شكل ظاهرة
حرية بالدراسة والبحث.
حيث سادت الأشكال الميتافيزيقيَّة وأصبح اللا مرئي مجسّدًا عبر الميزانسينات الحركيَّة والمقترحات السينوغرافيَّة، التي تفاعلت مع المواضعات الدرامية والمعالجات الإخراجيَّة المحتفية بالماورائي والطيفي والشبحي والروحي على حساب المادي والفيزيقي، وشكّلت ثنائيَّة الحياة والموت مرتكزًا فلسفيًّا ودراميًّا للمؤلف والمخرج العراقي بتحركها في دائرة الوجود والحضور، كفعل أساسٍ في خطاب العرض العراقي المعاصر المتباين في البث ونسبية التكيف، وجاءت عروض (في قلب الحدث) لـمهند هادي و(فوك) لـعواطف نعيم و(تداعيات ميت) لـعكاب حمدي و(ثمان شهود من بلادي) لـماجد درندش و(رائحة الزعفران) لـسعد عزيز عبد الصاحب، وسينما لـكاظم نصار وغيرها لتنتقل بالمكان الافتراضي والشخوص إلى عوالم أخرى سديمية جديدة ترفض الموت وتنفتح على السري والمضمر في بوحها وتداعياتها بفعل فاعل خارجي مادي كـ(السيارات المفخخة)، (القتل على الهوية)، (حادث دهس) وغيرها من الفواعل.
في حين نجد أنَّ عرض مسرحية (عزرائيل) تاليف مثال غازي واخراج اسامة السلطان قد جاء بفاعلٍ قدري (عزرائيل) لقبض روح الممثلة، لتتم عملية عكسية في خلق الشخصيات والفضاء تختلف عن العروض السابقة في ضوء مفهوم (الأنسنة)، أي تحويل ملك الموت إلى حالةٍ واقعيًّةٍ يوميَّةٍ، تحبُّ وتكره وتتحرك بملء إرادة الممثلة، التي تحولت إلى (شهرزاد) بالمعنى الرمزي تدرأ الموت عن نفسها بالحكي والسرد، لتديم الحياة ومراهنتها على الزمن.. الممثلة التي انتهت للتو من أحد عروضها المسرحية على إيقاع تصفيق الجمهور تنتابها فجأة نوبة قلبية، لتقع على الأرض جاثمة، حينها يدخل (عزرائيل) وجنوده ليأخذوا روحها، إلا أنَّها تمانع وبقوةٍ وتخوض مع الملك حوارًا جدليًّا في معنى الحياة والموت بوصف (الحياة أجمل من أن نفكّر في مغادرتها فلا أحد يفكّر هنا في مغادرتها طوعًا أو اختيارًا، فكلُّ الذين يغادرونها عيونهم معلّقةً عليها) ـ من كلمة المؤلف في فولدر العرض ـ يمرُّ الوقت سريعًا وتغلق بوابة العالم الآخر، حينها يتأخر الملك في قبض روح الممثلة، ليبقى مهضومًا في فضائِهِ الجديد المبهم.. فضاء الواقع اليومي بوجودِهِ المجسد، ويتحول (عزرائيل) بفعل الممثلة وغوايتها إلى حالةٍ يوميَّة بمشاعرَ إنسانيَّة، يضحك ملء شدقيه ويحبُّ ويرقص الفالس على أنغام الموسيقى ذائبًا بالحياة ومفاتنها، أخيرًا تنفتح أبواب السماء مرةً أخرى، لتذهب الشخصيتان معًا في رحلة ما بعد الموت.
عمل المخرج (اسامة السلطان) على إنتاج فضاءين نقيضين في العرض المسرحي الأول، يحاكي العالم الآخر أو ما ندعوه بـ (الفضاء الميتافيزيقي)، جسّده ببوابةٍ حديديَّةٍ ضخمةٍ وممرٍ خلفي عميق أشبه بكوةٍ وسديمٍ لا نهائي، والفضاء الآخر، جاء فضاءً واقعيًّا يعبر عن حياة الممثلة وموجوداتها في كواليس المسرح، تمثلت بشمّاعتين كبيرتين للملابس وكنبةٍ ومرآةٍ تحولت دلاليًّا إلى أبوابٍ تطلُّ على الآخر مشترعة طرقًا جديدة، وتحولتِ المجموعةُ في مشهدٍ مائزٍ من أتباع عزرائيلَ إلى أشكالٍ وشخصياتٍ تديم الحياةَ اليوميَّة، بأفعالٍ واقعيَّةٍ وإنسانيَّةٍ في دلالاتها البصريَّة وليتمَّ التحولُ السايكولوجي لشخصيةِ عزرائيلَ من خلالها ويتمُّ تعرّفه على الحياة ومعناها، بقيَّ الفضاءُ الأول (الميتافيزيقي) فقيرًا في محتواه البصري وشواغله الحركيَّة، التي كان عليها أن تغذّي تصورنا الجمالي السمعي والبصري للعالم الآخر بأشكالٍ جديدةٍ وتجسيدٍ آخر للحظة خطف حياة الممثلة باستعاراتٍ (ناريَّة) لشخوص العالم الآخر (عالم الأرواح)، في حين أجاد المخرج في إيجاد معادلاتٍ موضوعيَّةٍ لأشكال الحياة داخل كواليسِ المسرحِ بنسقها الواقعي التجريدي في الفضاء الأمامي، موظّفًا إيّاها لإنتاجِ مدلولاتٍ جديدةٍ غادرت أيقونيتها، وكان على المخرج أيضا أن يفعّل القيّم الحركيَّة والعاطفيَّة لممثل شخصية (عزرائيل) بمنطقها (الروحاني) بإيجادِ لوازمَ حركيَّةٍ وإيقاعيَّةٍ (صوتيَّة) ملازمةٍ له، لتثويرِ وتقويَّة جوانبِ المتعةِ والإثارة الجماليَّة لدى المتلقي.. ويحرر ممثلته جسديًّا وعاطفيًّا في إغوائها لملكِ الموت وتدجينه للسيطرة عليه.
حاول الممثلان بشرى إسماعيل وجاسم محمد أن يجسّدا شخصيتي (الممثلة) و(عزرائيل) بما أوتيا من خبرةٍ طويلةٍ في العمل المسرحي، وأن يعملا بالمنهجِ التقمصي في الأداء التمثيلي، إلا أن جسديهما لم يسعفهما في عمليَّة الانتقال من حالةٍ إلى أخرى فكانا بطيئي الحركة، وهناك ضعفٌ واضحٌ في صوت الممثل جاسم محمد وإدغامٌ في مخارجَ حروفِهِ، اذ لم نسمع الغالب من حواراته، في حين جاء صوت الممثلة بشرى اسماعيل واضحًا متهدّجًا حسّاسًا للموقف الدرامي، الذي وضعت فيه وتحتاج إلى مرونةٍ حركيَّةٍ أكثر في انتقالاتها من مشهدٍ إلى آخر، وتمكنت المجموعة (الجوقة) بمرونتها الحركيَّة ودقّة تحولاتها أن تضفي نوعًا من المتعة البصريَّة على المشاهد، ولم تكن عبئًا أو هامشًا على الصورة المسرحيَّة، بل كان يمكن زيادةُ وجودها وتكوينها داخل بنيَّة العرض، أما النسق الضوئي فقد أسهم بشكلٍ متواضعٍ في تصوير ظلال العالم الاخر وجمالياته، إلا أنَّ شدة الضوء كانت ضعيفةً وقلقةً
غير ثابتة، يبدو بسبب قلة عدد الاجهزة المنتخبة للعرض، وجاءت الموسيقى والمؤثرات ضمن ميلوديات مسموعة سابقًا وغير جديدة، إلا أنَّها ساهمت في التصعيد الايقاعي للمشاهد.
بقيَّ أن نشكر فريق العمل على جهده الواضح السينوغراف مصطفى الطويل وموسيقى ومؤثرات محمد فؤاد وإضاءة ناظم حسن وأزياء زمن العبيدي والإدارة المسرحيَّة لسعد الشاهري، وإلى الفرقة الوطنيَّة للتمثيل فرقتنا الأم.