أحمد عبد الحسين
رحل أمس السبت الفنان الكولومبي الأشهر فرناندو بوتيرو عن عمر 91 عاماً. عاش حياة مديدة وغزيرة الإنتاج، ابتداءً من طفولته وصباه في مدينته "ميديلين" وولعه بمصارعة الثيران ولعاً أدخله إلى معهد لتعلّم هذه الرياضة مع شغفٍ مبكّرٍ بالرسم والنحت. ويبدو أنَّ هذا الشغف هو الذي انتصر أخيراً، مع بقاء حنينه لمصارعة الثيران التي طالما تعرّض للانتقاد بسببها بعدِّها رياضة عنيفة "غير إنسانيَّة"، وهو حنينٌ سيظلّ يدافع عنه في وجوه منتقديه حتى آخر أيامه.
رحلته إلى أوروبا "إلى مدريد أولاً ثم استقراره في فرنسا" حسمتْ خياراته الفنيَّة، كان يقضي ثلاثة أرباع يومه في المتاحف "اللوفر خاصة" يعيد رسمَ أعمال الفنانين الخالدين الذين أثروا فيه عميقاً "ديلاكروا، غويا ودافنتشي" وهو انشغالٌ سيتخذه النقّاد لاحقاً موضوعاً لتوجيه انتقادات إليه تتعلّق بـ"تهمة" التعكّز على هذه الأسماء المكرّسة واتخاذها رافعة لاسمه وأعماله، وبخاصة بعد أنْ عمدَ بوتيرو إلى إعادة رسم أوابد فنيَّة كبرى بطريقته الخاصة، كما فعل بلوحة دافنتشي الأشهر "الموناليزا".
قبل ذلك كان يرسم متأثراً بشكلٍ واضحٍ ببيكاسو وخوان كريس ويبيع لوحاته أمام أبواب المتاحف ليعيش، لكنّ الانعطافة الحقيقيَّة التي جعلتْ بوتيرو يمتلك هويته الفنيَّة الفريدة، ربما تكون قد أتتْ إليه مصادفة كما يقول في إحدى حواراته حين رسم لوحته "طبيعة صامتة مع ماندولين" وجعل نسب آلة الماندولين غريبة وفتحة الصوت فيها صغيرة جداً. وحين أنهى لوحته أدرك أنّه امتلك المفتاح الذي سيدخله إلى بيته الخاص بعد أنْ سكنَ طويلاً في بيوت الآخرين.
أسلوب الـ Boterismo الذي سيتبناه طريقة لرسمه ونحته إلى آخر حياته، كان يتلاءم مع طبيعته الشخصيَّة: المبالغة في إظهار السمات الفرديَّة جسدياً والتي تكشف عن سماتٍ نفسيَّة غالباً، وتضخيمها إلى درجة تقترب كثيراً من الكاريكاتير.
كان عمله غريباً على الأعراف الفنيَّة آنذاك، فكُتب عن أعماله الأولى "هذه رسوم كاريكاتير تهين الجسد البشريّ وتبقيه في أفق السطحيَّة. إنها أجسادٌ بلهاء". أجساده تفتقر إلى الرشاقة بالتأكيد كما في لوحته "راقصة الباليه" لكنَّ هذه الكاريكاتيريَّة التي لم يحتملها النقاد صارت حجر الزاوية في فرادته وشهرته، قال رداً عليهم "إنهم على حقّ فأنا أمثلُ عكس ما يحدث في الفن اليوم". وما يحدث في الفنّ اليوم بحسبه هو وجود طرفٍ ثالثٍ بين الفنان والجمهور يشرح لهم عمل الفنان، الأمر الذي يرفضه بوتيرو: "يجب أنْ يكونَ أي شخص قادراً على فهمِ عملي. هذا هو أحد أقوى مبادئي كفنان. يهتمّ الناس بلوحاتي ورسوماتي ومنحوتاتي لأنها واضحة مباشرة. ليستْ هناك حاجة لشرحٍ تكميليٍ من قبل طرفٍ ثالثٍ للمساعدة في فكِّ رموز العمل أو الإعجاب به أو تقديره أو الاستمتاع به، كما يحدث غالبًا في الفن المعاصر".
تخليه عن الطرف الثالث مكّنه من التعبير عن قضايا عامّة "سياسيَّة أغلب الأحيان" كما في سلسلة أعماله التي سماها "أبو غريب" وهي كما ينبئنا الاسم عن الفظائع التي ارتُكِبت على يد الأميركان في المعتقل الشهير ببغداد، أو في أعماله التي صوّرت مقتل زعيم العصابات الأشهر بابلو إسكوبار، أو حين فجّر الإرهابيون منحوتة له في مدينته الأمّ قام بنصب عملٍ نحتي آخر "حمامة السلام" مع إبقاء أنقاض المنحوتة المدمّرة على حالها تذكيراً بأنَّ الحياة تنتصر أخيراً.
أثّر بوتيرو في كثيرين وألهم كثيرين، لكنّ تأثيره الأكبر هو في نجاح رهانه المتمثل بقدرة الفنّ على أنْ يكون وفياً لنفسه ولقضايا عصره من دون تدخّل "طرف ثالث".