أ.د باسم الأعسم
ثمة أهداف ورسائل إنسانيّة وتربوية، تقف وراء انعقاد كل مهرجان ثقافي أو فني، وهذا يعني – بالضرورة – أهمية التفكير بجدوى المهرجان ومخرجاته على صعيد النتائج والتلقي، سواء كان مهرجاناً شعرياً، أم تشكيلياً، ام سينمائياً، ام مسرحياً، فعلى صعيد المسرح، الذي هو محور مقالتنا نقول: إن المهرجانات المسرحية بعيداً عن النزق العاطفي، والآراء المتسرعة والمتحاملة، ينبغي ألا تعقد إسقاطاً لفروض معينة، أم دوافع إشهارية محددة.
لأنها تظاهرات ثقافية، وفكرية، وفنية، يعول عليها في تحقيق أعلى درجات الوعي، والامتاع، وتوجيه مدركات الجمهور، بما يصعد لدى الجمهور نفسه الشعور بالانتماء، وتحقيق الهوية الوطنية، ببعدها الإنساني والجمالي، فضلاً عن تثوير الجانب الثقافي، انطلاقاً من كون المسرح مؤسسة نقدية، فنية، وانسانية ذات خطابات فكرية ومعرفية، تستهدف الارتقاء بوعي وذائقة الجمهور، الذي يذهب بقصدية لمشاهدة العروض المسرحية للاستمتاع بمضامينها، وأشكالها، ومن ثم تفسير متونها، وتأويلها، فتتأسس عندئذٍ وشائج العلاقة الحميمة بين العروض المسرحية كخطابات فنية، وثقافية، وإعلامية، وبين الجمهور كمجتمع إنساني مفكر، ومنتج.
ولنا الان أن نقدر فخامة المسؤولية الملقاة على عاتق المسرحيين وهم يستقبلون مئات الافراد، والأسر المتلهفة لمشاهدة العروض المسرحية، وبالأخص خلال مدة المهرجانات المسرحية، إذ تتضاعف أعداد المشاهدين للتمتع بربرتوار العروض المتنوعة، الذي يفترض أن تكون مختلفة، وصادمة لآفاق توقعات الجمهور، وليس مجرد تراكم كمي لعروض هزيلة افقية المنحى، سردية اللغة، الى جانب الفعاليات الفنية، والثقافية، كالورش المصاحبة للمهرجان، والجلسات النقدية، التي تعد من الممارسات التقويمية النوعية، التي تسهم بترصين المهرجان، أياً كان، وكذلك توقيع الكتب، وبعض الورش الفنية، والجسدية، والتقنية، بحيث يكون المهرجان بمثابة أكاديمية فنون جميلة، تؤتي عطاؤها في أيام معدودات، فتكون ثمارها ناضجة، وتبلغ رسالتها الآفاق. إنَّ الأهم قبيل عقد أيما مهرجان مسرحي، أن تتشكل لجان مؤهلة من النقاد، والمخرجين، والتقنيين، والمؤلفين، واللوجستيين، مثلما هي الحال لدى دائرة السينما والمسرح عندنا، إذ تجري الاستعدادات الجادة، والمسؤولة، لمشاهدة العروض المسرحية، وانتقاء الصالح للعرض منها أي، المتوفر على اشتراطات الفن والجمال، بما يضفي على المهرجان الصفة المرجوة، والجدوى الثقافية، والفنية من خلال المقاربات التجديدية الحافلة بكل ما هو جديد ومغاير، وتجريبي على صعيد الوسائل والتقنيات، بحيث يصدم ذائقة الجمهور بروعته، ولا مألوفيّة المعالجات الإخراجيّة، منذ بدء العروض وحتى منتهاها، بما يجعل الجمهور متفاعلاً ومنسجماً مع أحداث العروض، وصورها المدهشة، حتى لا يندم على ضياع الوقت الذي اقتطعه لمشاهدة عروض المهرجان.
إنَّ الجمهور ينوي الذهاب الى المسارح بقصد اكتساب المتعة المهذّبة، وليست المتعة الهابطة، أو مجرد تزجية للوقت، ففي المهرجانات عادةً يكون الحافز لمشاهدة العروض المسرحية قوياً، ومضاعفاً، بسبب التنوع في الأساليب الإخراجيّة، والرغبة لمشاهدة ما هو جديد ومبتكر، بعد أن سأم من العروض التقليديّة ذات الطابع المدرسي.
فضلاً عن الاختلاف في العروض المسرحية، إذ يفرز هذا التلاقح الثقافي، والفني، الذي مصدره تباين الفرق المسرحية المشاركة نوعاً من الأفكار التجديديّة، والمقاربات المعززة بالتقنيات الباعثة على الجمال والمعاصرة، فتحدث الدهشة، وتتوحد المشاعر، فتتأسس من جراء ذلك التقاليد الفنية المتحضرة، بين الجمهور، وبين العروض المسرحية، وهذه أولى بشائر العافية، والتطور في الخطاب المسرحي، الذي لا يمكن له أن يبلغ ذراه من دون تقاليد راسخة، ينتجها، ويرسّخها المخرجون، والمؤلفون الأكفاء، وليس الادعياء، فالعروض المسرحية الناجحة ذات الدسومة الدلاليّة والجماليّة، تعبّد الطريق بإتجاه المسرح، على نقيض العروض الهزيلة ذات المحتويات الهابطة، والأساليب الإخراجيّة التقليديّة البائدة التي تعيق المسار التطوري للحراك المسرحي، فيحدث من جراء ذلك الإحجام عن مشاهدة العروض المسرحيّة. ينبغي أن تدل عنوانات المهرجانات على عروضها المسرحية التي هي الاخرى تكون ترجمة حقيقية لتوجهات المهرجان، وإن هذا التوافق البنيوي بين الاثنين ينتج لنا مخرجات نوعية، وسليمة ذات آفاق رؤيوية تؤكد صحة المقدمات، وايجابية المخرجات التي تعود بالخير على مستقبل الخطاب المسرحي.
إنَّ المهرجانات المسرحية العربية الكبرى أمثال (مهرجان قرطاج التجريبي في القاهرة، ومهرجان 24 ساعة مسرح في تونس، ومهرجان بغداد الدولي للمسرح، وسواها) لم تعد ترفاً فنياً، أو فكرياً طارئاً، أو حدثاً عابراً، بل مواجهات كبرى مع الاخر، ذات خطابات ثقافية، ووسائل فنية ناجعة في التعبير عبر الخطاب المسرحي عن ازمات المجتمعات الانسانية المصيرية، وتطلعاتها المشروعة في العيش بسلام، ومن ثم توجيه سهام النقد الى الحياة والواقع ومجمل المظاهر السلبية التي تحول من دون إشاعة الجمال، والتآخي، والعدالة الإنسانية، انطلاقاً من كون الفنانين المسرحيين، هم رسل الإنسانية، المبشرين بالجمال، والحق، والتسامح، بوساطة العروض المسرحيّة ذات التوجهات التقدميّة، والأدوات التعبيريّة التي تعدّ من أبرز مخرجات المهرجانات المسرحيّة، إذ كلما كان المهرجان رصيناً على صعيد الفكر، ومتيناً على صعيد الشكل، ومتنوعاً على صعيد العروض، ويشارك فيه أساطين الإخراج المسرحي، ورموز النقاد، يكون أدعى لإشاعة الجمال، والبهجة، والمتعة، وتأسيس منطلقات سليمة تكون بمثابة الرؤى المستقبليّة الصحيحة لمهرجانات مقبلة لا تقدم للنخبة، وإنما تقدم للجمهور على تنوع مشاربه وثقافاته ومنطلقاته.
إنَّ تقديم المهرجانات المسرحيَّة، يعني بالضرورة، الإعلان عن حراك ثقافي جاد، ترعاه أعلى مؤسسة رسميّة ثقافيّة كوزارة الثقافة – دائرة السينما والمسرح، نظراً لأهميته على الصعد كافة، بوصفه الحدث الثقافي الأبرز بشخصياته وعروضه وفعالياته وأهدافه ومخرجاته. وهذا يعني أن المهرجان المسرحي يولد ليكبر، ويعقد ليستمر، لا ليتوقف بذرائع شتى، كيما يصار الى تأسيس تقاليد مسرحيّة متحضرة على صعيد التلقي، والاستجابة الجماليّة، تتضح نتائجهما الإيجابيّة على مستقبل الخطاب المسرحي، المقترن بالتطور، والتغيّر عبر استلهام اشكاليات الواقع واحالتها الى صور مؤثرة وأفعال تحاكي العصر وأزمات الإنسان المعاصر على وفق معالجات تسر الأعين، وتبهج الصدور من فرط حداثتها وجمالها الآسر. إذ لا جدوى من مهرجان يعقد من دون أهداف ترتقي بالحراك المسرحي، وتوسع دائرة انتشاره وتأثيره واستمراره، انطلاقاً من كون المهرجانات المسرحيّة خطابات فكر، وسلام،
وجمال.