الإرث والمعنى

ثقافة 2023/09/18
...

 ياسين طه حافظ

نحترم الماضي بفهمه لا بالحماسة له. هذا موجز ما أردت قوله وأنا استذكر تلك السجايا التي تمتّع بها من غابوا. أعني استعدادهم للتضحية بالنفس والفخر بها وهم يصدون الأعداء أو يحمون الآلهة والمعتقدات. لا أقول مثلما تقول الكتب أو الرواة. أقول إنهم يدافعون عن «إرث ومعنى» وفي هذين مبادئ وأسباب أقرب للتجريد منها للمشخصات الواقعيّة. ولذلك ما قلت دفاعاً عن ملكية وحدود. هم يندفعون لا يدركون السرّ الخفيّ، هم يحسون به ولا يعرفونه لمساً أو عياناً. التقاليد تغطي عليه. لكن الفعل المنجز هو عن ذلك وإن بدا عن مال أو عرض أو رد أو فرض سطوة. ذلك ما توارثته الناس وما اكتسب ما يشبه القداسة..
 الفرد يبادر في الدفاع والقتال بسبب «خارجي» لكن ديمومة الفعل وتكراره وراءها معنى غير مرئي. ثمة معنى لا يريدونه أن يضيع. ولذلك كلهم يمارسون الدفاع عنه والقتال لحمايته، أو التعبير عنه. يبدو للعيش وضروراته، لكن «الداينمو» الأزلي هو ذلك الادراك الغامض الذي يمدّهم بالطاقة ثمّ المبادرة والفعل والانجاز. ولكشف المظان، والمحاججة، أسأل هل تكفي الاسباب القديمة للقتال والتضحية وهل مقنعة تلك المضامين التي طال وصفها بالمجيدة؟.
يمكن أن نقول كانت المبادئ سليمة من تسخيرها أو من «توظيفها» أو شرائها واستغلال الناس واستعبادهم بها. هم يدافعون عن أرض وعيش وفي دواخلهم وهج «إرث ومعنى». وهذا ما لم نعد نملكه. فاليوم جهات دولية مؤسسات تصنع أحزاباً وموالين وترسم مبادئ ليشغلوا بها مراحل أو ينجزوا مهام. قد لا تعلن عما وراءها ولكنها يوماً بعد آخر تُستشَف. ثم أنّنا تغيّرنا ثقافياً ونفسياً ولا نملك دائماً معنى، بل ولا حتى رؤية أخرى بعد أن تلبّستنا رؤية بأجرٍ أو بوعد. نحن اليوم نعيش برؤى وافهام وقناعات إما ورثناها من دون موافقة أو علم وأما نتلقى بدائل حملها أجراً أو وعداً بأجر.
ولكي يستمر اللعب بنا أو استخدامنا، نُطعَم من مؤونة مختزنة ونُخدع بأضواء سنفصل اليها، و»الأفضل بثمن» أو بمقابل. زمن للمقايضة. حتى العلاقات الاجتماعية مقابضات. وهذه حال لايمكن أن تكون سليمة أو مقبولة. فما زلنا – في تهافتنا أو ضلالنا الخارجي، في الأجواء الأولى، نريد الذكور شجعاناً يجيدون القتال ونقدر صفات الانضباط والطاعة العمياء والاستعداد للموت. وما ندرسه للتلامذة أمثلة ليُقتدى بها من فرسان وأبطال المعارك والملاحم وفي شوارعنا نصُبٌ لقادة أو لمحاربين عظام والخطَب التي نحفّظها لهم هي التي تحث على التقدم والصمود في الخطوط الأماميّة والمبادرة بالهجوم وقتل أكبر عدد لكي لا يقال عنهم في المستقبل جبناء!، إنّنا وإنّهم يجب أن نقاتل مثل أجدادنا العظام الذين «صنعوا التاريخ». حتى العشّاق الكبار فيما يروى كانوا مقاتلين كباراً، فللأولاد نحكي عن المقداد بن الأسود الكندي وحبيبته الميَّاسة وعنترة بن شداد وحبيبته عبلة وهم من صنع مثُلٍ مطلوبة وأساطير لاستحضار قدرات قتالية وأفراد متفوقين دائماً على الأعداء.
هذه بالتأكيد تمثل ثقافة وتمثل مستوى حضارياً وهي مطالب ناس.. لكن الحصيلة، هي أننا ما نزال نفخر أو نتشدّق بما كان ونريد إحياءه ومعايشته مرة أخرى. وهذا لا أخفيكم بدء الضياع الجديد، فما تريده لا يتحقق، صار مستحيلاً لكنهم يشغلون حاضرنا به وبأخباره وتصوراتهم عنه. فما عدنا نمتلك الماضي ولا بقيت لنا فرصة التمتع أو الفعل في الحاضر، وليس للمستقبل وقت
ولا أحد.
القِيم تتغيّر أو تتهذّب مع التحول الحضاري. ومحبة القيم القديمة، لا تعني إغفال القيم الجديدة أو الاستهانة بها. هي استجابات ايضاً. وهي ليست طرفاً في نزاع. مستويات وعينا وراء الخلاف. المسعى أصلاً واحد وهو إنسانيّة سليمة آمنة. ولا أحد يريد انتكاسة مضامين أدبنا أو أخلاقنا أو فنونا. وحين نقول لا نريد أحداً يدمّر مكاسبنا الحضاريّة فلأنها إرث المستقبل ومعنى وجودنا الحاضر ولا نريد ان نعيش بلا إرث ومعنى. مذاق العصر والروح الحي المشترك على الكوكب وآمال الإنسانيّة، ملكية لا يستهان بها. وتحتاج حماية. لكن اساليب الدفاع والتضحية لم تعد تلك القديمة. القوى الكبرى لا تواجه اليوم بالبنادق والخطابات من يحتاج إلى النار والمايكروفونات هم المافيات وأباطرة وعسكريو ودكتاتوريو العالم.
الأمثلة القديمة اكتسبت طرافتها بيننا بدلاً من حقيقتها، من الفكر المتماهي وراءها. نحن اليوم غيرهم كانوا. نحس في دواخلنا فراغاً لا لأحد. فراغاً مربكاً ومؤسفاً. هو ذلك الفراغ الذي تركه غياب «الإرث والمعنى» وهو ذاك الذي كان يُضيء داخل إنسان القبيلة وهو في المعمعان بكلِّ طاقته وعواطفه وروحه. ثمة حاجة لإعادة ترتيب المفاهيم للنفس وللعالم. الخطأ والتبسيط ليس في صالح الناس ولا صالح الدراسات. وأنا أكتب الآن يتخاطف عليَّ قتلة التاريخ ومدمّرو الحياة ويصدم جبهتي وجودهم الشائن والمرعب في الحياة. كيف بعد تعود نظيفة وكيف بعد نمتلك المعنى. أولاء رأسماليون يتجارون بالبشر. يشترونهم، يصنعون منهم اتباعاً، جواسيس في البلدان أو يلبسونهم زي مقاتلين ويدفعونهم حيث يريدون استيلاء أو تدميراً أو استلاب قواعد أو أسواق. كلٌّ عرضة لأن يُشتَرى وكلٌّ قد يضطر لتسلم الثمن وبيع النفس. والعروض درجات ومستويات. كيف تسقط هذا الهول الذي ركّب العصر؟، صوت في جمجمتي: صمتاً! وانشغلْ بكومة أوراقك وكوم كتبك، هلا عرفت قدرك، حسناً أنا أقول لك اطلاقة تحرق مكتبة!
هو هذا ما كنت أخشى. حين خسرت الإرث ولم أعوضه وخسرت المعنى وبقيت بلا معنى. لم يكن الفارس القديم، وابن القبيلة يقاتل بسيف أو بخشبة وحجر. كانت قوته بذلك الإيمان المتماهي في لحمه ودمه ولغته وعقله. كان يرى الاعتداء تجاوزاً على المستقرّ أو تجاوزاً على الراحة في المابين ومن بعد هو تجاوز على المعنى. ليس بلا سبب الاشتعال حماسة وبلا سبب عميق الانغمار في قتال. هي فلسفة تُحَسّ ولا تُقرأ.  ومعنى له صلةٌ حيّةٌ، في كل حياته ما دام حياً وصلة بينه وبين سلام الأهل و «الحلال» والجماعة. الثلاثة لها صوت واحد فيه. وهو خُلِقَ مؤتَمَناً وتربّى محتفظاً بذاك الايمان، يعيش معه كبعض منه.
لن يتيسّر ذلك بعد ولن نمتلكه بسهولة. خسرناهُ والى الأبد، فقد انفصلنا ونحن وحدات متباعدة في خضم، وكل لها حاجة وكل لها مسعى. وافدح الخسارات أننا افتقدنا قدرة الغَلَبة وآمنا عميقاً بذلك.. شعور مثل ذاك الذي كان بالفوز، صار اليوم في الملاعب.. لم يعد الإرث إرثك وحتى الان أنت لا تملك معنى. وما تسميه ثقافة قد يكون بديلاً، ليكن ولكنه ليس زرعك ولا حصادك هو حشد كتابات واقاويل جيدة وغير جيدة، قالها ومضى الآخرون.