خضير الزيدي
تبدو أعمال عاصم عبد الأمير منذ ثمانينات القرن المنصرم الى هذا اليوم محمّلة بسمات الفضاء التعبيري الذي يلفت إليه الانتباه، فهي مليئة برموز وإشارات واقعيَّة لم تذهب الى مناطق الغرائبيَّة والسحر والطقوس الغريبة، كلُّ ما تحتمله فضاء من الجمال الواقعي بلمسات ماهرة وخيال خصب. والملفت فيها أنَّها تتسع لرؤية تخص الجميع مع أن مناطق اشتغاله بقيت في حدود التلاعب بأجواء الطفولة، حيث المرح والحرية. وبما أنَّ عاصم عبد الأمير معني ومنشّد الى حرية من نوع مختلف فقد وجد له طريقًا في التعامل مع الرسم وحتى مع أعماله الكلسيَّة، إذ قدم تصورًا جماليًّا جعل من قراءة واقع الطفولة قضية تلامس ثوابته وخبرته فانصبَّ اهتمامه لينتج خطابًا بصريًّا يُعيد للمتلقي التذكير بفرصة البراءة والحرية معًا مع أنَّ الجوهري في قضيته ليس الإثارة الشكليَّة، بل الذهاب إلى أقصى درجات التسامي في
الفن.. كأنّه يتفرّد بلون لا ينكمش لمرحلة معينة من تجربته في الرسم بل نراهُ يزاول إعادة قراءة فعل الطفولة وبراءتها والإثارة والمرح في تصرفاتهم ليكون معنيًّا بإنتاج نوع من الجمال الفني الخلّاق هذا التصور يجعلنا نتأمّل عمق تفكيره، ففضلًا عن النسق الابتكاري لمنتجه وحتى استدعائه لأحكام تعبيريَّة وفنيَّة ذات مفهوم حدسي مكرّس لاشتراطات خاصة نتعلق بها في دائرة بعينها وهي (حرية الطفولة). ومن هذا التصور سيقتضي الأمر أن نكتفي بفرصة مرسلة تخصّ واقعًا معينًا لكن الحقيقة أنّه يخبرنا حول معنى أكثر أهمية يكمن في الحرية مثلما قال لي ذات يوم (ما يهمني حقًّا أن أنشئ فضاءً جماليًّا فيه من الحرية ما لا نعثر عليه في الواقع وحين اتّخذ من الطفولة سمات لأجوائي إنّما لا تشبه بما يفعله الطفل في ممارسته الحرّة والعذبة حين يكسي البياض بعجائب صنيعة ويجعل من المشاهد المرسومة مشعّة بالجمال وعبقريَّة التراكيب والبساطة المحيّرة وهكذا اطبع نفسي عن الموحيات تلك وازداد إيمانًا وشجاعةً في نسيان ما تعلّمته). إنَّنا نفهم الأسباب التي تجعل من هذا الفنان متمسكًا بخطاب يجعله وريثًا لكلِّ من يريد معرفة الفن وحقائق ما تذهب إليه أعماله التعبيريَّة أنّه يحتكم لرؤية داخليَّة ويحاول الامساك بنمط معين من الفن، لكنّه فن مختلف عالق في وجدانه وخياله وإرادته ويصرُّ دائمًا أن يجعله قضية جماليَّة وفنيَّة تصاحب طروحاته في التنظير لقد تصور عوالم الطفولة واستثمرها وهو بحاجة إليها لأنَّ الحديث عنها لم يكن فائضًا عن إرادتنا الحديث يقود بالنسبة إليه إلى معرفة حقائق تطيح بما لا يمكن أن يستسيغه من وقائع مؤلمة في الحياة اليوميَّة فهو يأخذنا لمناطق تخضع لرؤية فلسفيَّة ووجوديَّة وينازع من أجلها أية مصدّات تقف أمامه فخياره الارتقاء بالذات الإنسانيَّة الى مستويات أكثر علوًّا، ولعلَّ (الحرية والمناداة بها) أولى اشتراطاته حتى لو كلفه الامر المزيد من الخسارات. أعتقد أن كل من تابع اعماله القديمة والحديثة سيقف عند وصفه التسجيلي لحقائق الطفولة ومثلها في البراءة والنقاء الإنساني وهي حقائق نلتمسها ليس لأنّها تفرض شرائع معينة بل كونها تقع تحت طائل الإحساس بالمسؤولية اتجاهها، ومن هنا يبدو الفن لديه نشاطًا ذهنيًّا وجوهرًا لقضية إنسانيَّة بحتة ليقدم صورة جدل داخلي يعتمر نفسيَّة هذا الفنان.
ثمة ما يطرح من تساؤل عن الإثارة الملفتة لأعماله ولم الاصرار على بقائه في مساحة ثابتة من رسم عوالم الأطفال أقول إنّه يعي فهم الفن وخاصة، إذا كانت دعوته التفرّد بنسق أسلوبي له منهج تعبيري معين، وهذا يحسب له لاعتماده طرحًا جماليًّا وشكليًّا ثابتًا، ولكون فنّه محصور بفكرة (الاتيان بوجه شديد الارتباط بهويتك) حسب قوله وهو ما يجعلنا نتيقن انه يريد الابتعاد عن التأثير بخطاب الفنانين الآخرين ممن نقلوا وأسسوا لخطاب معين في الفن، ليكون أسلوبه مميزًا وحاملًا لحقل دلالي لا يتعارض مع القيم الاجتماعيّة في البيئة العراقيّة مع الاستثمار لنزعة الحداثة وتتابع أهدافها. ولهذا أجدد القول إنَّ الملفت في تعبيرياته أنّها تعي خطاب التوجه الخاص به وتصر على انتاج أشكال ذات مرجعيّة لها تصور فلسفي يكمن في شرائع الواقع العراقي ومجابهة استلاب الحرية من الفرد.