في رواية (غريزة الطير) لـ عبد الزهرة زكي
د. نادية هناوي
منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وتناول إشكاليّة الانتلجنسيا العربيّة معتاد روائيا، وبأساليب تتنوع وتتلون تنافرًا وتجاذبا، قربا وبعدا من دون أن تؤدي إلى مفترق طريق محدد فيه تتضح معالم علاقة المثقف بالمجتمع. وها هو النظر إلى هذه الثيمة يفقد حساسيته وحرارته ويتحول من موضوع طازج إلى موضوع معتاد ومفروغ منه حتى أن كثيرا من الروائيين صاروا لا يتحمسون له ولا يرون فائدة من وراء طرقه لمكروريته وقدم طرحه عند كبار روائيينا كنجيب محفوظ وفتحي غانم وعبد الرحمن منيف وغائب طعمة فرمان ولخلوه أيضا من مقومات الصيرورة والنماء على المستويين الفني والحياتي، لا سيما بعد أطروحات ادوارد سعيد العميقة والمهمة حول محنة المثقف وإشكاليات المثقفين. وإذا أضفنا إلى ما تقدم الوضع الانحداري الذي تعيشه الثقافة العربية اليوم ـــ وهو أمر جلي لا يحتاج دليلا ـــ لبدا لنا حجم التحديات التي بسببها صار توصيف المثقف والثقافة مائعا ومتشعبا إلى درجة لا يمكن التكهن بها.
وإذا كان للرواية العربيّة أن تطرق هذه الثيمة مجددًا وتضعها على طاولة السرد العربي، فإنَّ كثيرًا من الشجاعة وقدرًا كبيرًا من المغامرة لا بدَّ أن يتحلّى بهما الروائي، وهو يهمُّ بالكتابة عن إشكالية المثقف العربي، موليًا اهتمامًا للصعيدين الموضوعي والفني معًا، كي يمسك بالظواهر والخفايا، وكي يكون ذا موقف جريء يعرِّي المثقف المدجن والمنهزم والخانع، ويدين ـ بلا تردد ولا تحرج ـ تواطؤه ويشجب تخاذله وينتقد انهزاميته وانغلاقه على ذاته وتبدل مواقفه بحسب موازين القوى.
وعادة ما يذهب الظن ــ في تحديد من يملك تلك الشجاعة أو من بمستطاعه خوض مثل هذه المغامرة ــ إلى الأسماء الروائيّة الشاخصة ذات الإنتاج السردي المشهود أو تلك التي تتمتع بتجربة روائيّة ليست كبيرة، غير أن من المدهش أن يكون التخمين متحققًا في من يدخل عالم الرواية لأول مرة وفي الآن نفسه يذهب إلى هذه الثيمة مباشرة بكلِّ شجونها وعلاتها، فيطرقها دفعة واحدة غير ملقٍ بالًا إلى مكروريتها وقدم تناولها. ليس ذلك حسب، بل يراهن أيضًا على الفن في تثوير هذه الإشكالية، محاولًا تشخيص الأمراض التي تعانيها الانتلجنسيا خلال العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين، مستشرفًا أبعادها وكاشفًا عن تداعياتها بحس فني بجماليات الكتابة الروائيّة، ووعي غائر في التحديات الفكريّة والقيميّة التي يواجهها المثقف العربي.
وهذا الروائي هو الشاعر المعروف عبد الزهرة زكي الذي غامر ــ على ما له من تجربة شعريّة شاخصة ــ بكتابة أول عمل روائي له هو (غريزة الطير) 2023. وما كان له ــ كما يُخيل إليَّ ــ أن يخوض هذه المغامرة، لولا إحساسه بأنَّ الكتابة السرديَّة هي الأنسب في تناول هذه الثيمة بكلِّ ما فيها من ملابسات.
فكانت شخصيات روايته جميعها مثقفة، تهوى الشعر ومولعة بالفلسفة وقراءة الروايات العربيّة والأجنبيّة، ولها آراؤها في الموسيقى وتذوّق أشكال الفن المختلفة، فضلًا عمّا يجمعها من صلات أسريَّة وصداقيَّة وظروف واحتدامات حياتيَّة، بيدَ أن لكل شخصية منها وجهة نظرها في الطريقة التي بها تتعامل مع تلك الظروف والاحتدامات، والأسلوب الأمثل في التأقلم معها، وفي شكل قرارات فرديَّة وخاصة، أسفرت محصلاتها عن رجحان كفة الهروب إلى بلاد اللجوء (الهجرة) على كفة المكوث في مدينة إليها (يستجلب الصيف المساوئ كلها دفعة واحدة) ومثلت الكفة الأخيرة شخصية واحدة هي (آدم زيني) الأمثولة التي عليها سيراهن الروائي وفيها يضع تصوراته للأنموذج الذي يمكن أن يعقد عليه الأمل مستقبلًا، ومن خلاله يستيقظ المثقف العربي من سباته ليُعيد النظر في حاله ومآلات واقعه.
ولأنَّ آدم هو هذا الأنموذج الذي ظلَّ كاظما آلامه، كان عليه أن يتحمل وزر (المساوئ) التي لم يتحملها رفاقه، فلقد فضّلوا عدم المواجهة، تاركين وراءهم وطنًا يئن من الأمراض، وأخا وصديقا مخلصا تقضُّ مضجعه كل يوم ملاحقات وتحقيقات ضباط الأمن بدءًا من تموز 1990 وليس انتهاءً بالعام 2003 وما بعده حيث الملاحقات والاستفزازات صارت تأتي من المجاهدين ولكن التهمة بقيت في كلِّ الأحوال واحدة وهي الجاسوسيَّة (إنّها تهمة الجاسوسيَّة إذا ما زالت تطاردنا وها هي تنهض من جديد إنما في العراق الجديد هذه المرة) ص322.
وعلى الرغم من تنوع الأمكنة ما بين البصرة والكويت وعمان والقاهرة ولندن واستراليا، فإنّها بالمجموع تنشدُّ حول مكان واحد أثير هو البصرة التي فيها يتجسّد العراق كله.
وعلى الرغم من رجحان كفة مثقفي اللجوء، فإنَّ التكافؤ السردي كان حصّة كل واحد منهم، وهو ما جعل الرواية متعددة الأصوات كطريق فني لرسم صورة تشريحيّة لشريحة الانتلجنسيا وبكل أمراضها واندحاراتها.
وغني عن القول أنَّ الرواية متعددة الأصوات هي الأنجع في تناول مثل هذه الموضوعات الإشكاليَّة، كونها تخلي سبيل الكاتب من تبني أية وجهة نظر ايديولوجية يفرضها على القارئ فرضًا، متحصنًا من الانحياز إلى يمين متطرّف ومسيطر أو يسار متمرّد ومنبوذ. وما كان للروائي العربي أن يقع على هذا التكنيك في ستينيات القرن الماضي إلّا بسبب ما تعرّضت له الحياة العربيّة من عصف التيارات والتحولات السياسيّة التي ضربت مختلف مجالاتها في الصميم. فكان أول من استعملها فتحي غانم في (الرجل الذي فقد ظله) ثم استعملها نجيب محفوظ والطيب صالح وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم. ولا يعني ما تقدم أن لتعدد الأصوات ميزة للرواية على مثيلتها أحادية الصوت، وإنما هي طبيعة الموضوع التي تفرض على الروائي استعمال التعدديّة الصوتيّة كي يكون محايدًا وهو يتناول موضوعًا سياسيًا مثل موضوعة الانتلجنسيا التي يعد نفسه جزءًا منها وواحدًا من مكوناتها.
ورواية (غريزة الطير) رواية متعددة الأصوات، فيها استعمل الكاتب نسق التناوب الذي منح الشخصيات (فوزي الخير الله/ ادم زيني/ الأخت الدكتورة سهاد/ الأب سليمان زيني/ الدكتور حسين/ الزوجة نهال/ الأم أيما) إمكانية أن تكون ساردة ذاتية تتكلم بصوتها مستقلة عن الكاتب وهي تسرد أحداث قصتها من الزاوية التي تناسب وجهة نظرها.
وصحيحٌ أنّنا نعدم أن نجد في الرواية متعددة الأصوات بطلًا، لأنَّ البطولة والإشكالية تتوزعان بين سائر الشخصيات الساردة، غير أن في (غريزة الطير) كان آدم زيني هو البطل الإشكالي لأمرين: الأول ما أُفرد له من حصة في السرد تعادل ثلث المساحة السردية تقريبًا، والثانية انه حافظ على وتيرة سردية واحدة كان فيها مثقفًا ذا حنكة وحكمة وصاحب موقف واحد لم يتبدل من أول الرواية إلى آخرها. ولكن هل يعني هذا أن الروائي أخلَّ بشروط كتابة الرواية متعددة الأصوات حين جعل آدم زيني بطلًا إشكاليًا؟ الجواب كلا، لأنَّ الساردين الآخرين هم أبطال أيضا ولهم إشكالياتهم، إلا أن تركيز النظر السردي على آدم المتمسّك بالوطن على ما فيه من (مساوئ) هو الذي جعل التبئير الايديولوجي موجهًا ومركزيًا، وعنده تلتقي وجهات النظر الايديولوجية الأخرى، ومن مؤشرات هذا التبئير ما يأتي:
طوباويّة الأنموذج الذي مثله السارد (آدم زيني) بسفسطائيّة حينًا وشعريّة حينًا آخر وكان فيها متناغمًا مع ما كان عليه الساردون الآخرون من حبِّ للفلسفة والشعر سيرًا وأعلامًا ونقدًا واقتباسات (أعتقد أنَّ الكتابة بالاستعانة برؤى الشعر هي أفضل بكثير من نقد الشعر هذا ما فعله باشلار وقبله هيدكر كان الشعر بالنسبة لهما مجالًا للتفكر والتأمل ووسيلة يستدل بها ويستضاء بلهب شمعتها) ص92 وبسبب هذه الطوباويّة كانت أغلب استهلالات الساردين شعريّة (بأمطار من نار بدأت الحرب على بغداد) ولم يؤثر ذلك كله في تماسك الحبكة الروائيّة وتصاعدها.
تماثل المستويات المعرفيّة والاجتماعيّة والفكريّة بين آدم والساردين الآخرين، فكلهم جامعيون ويحملون الدكتوراه ومتخصصون في جانب معرفي معين، يتقنون الانجليزية ولأسباب سياسية واجتماعية يفصلون من العمل أو يتركونه طواعية.
ـــ أن موقف آدم يعاكس مواقف الساردين الآخرين الذين رجحت كفتهم عدديًا لكنّها في الآن نفسه كشفت عن تضارب قيمي ما بين فكرهم وممارساتهم، فانهزموا متخذين من الهجرة ملاذًا فيه يتنصّلون عن القيم ويستسلمون للأمر الواقع. ففوزي الخير الله كان دائم التكرار لشعر الشعراء وأقوال الأدباء والفلاسفة، وشديد التأثر بسيرة الفيلسوف هيوم الذي لم ترغمه ضرورات العيش من أن يواصل مشروعه الفكري، ولهذا اتخذه فوزي أنموذجًا بعد أن قال عنه ايمانوئيل كانت: (لقد أيقظني هيوم من السبات الدوغمائي)، ولكنه أي فوزي ما أن وجد الظروف سانحة حتى تخلى عن هذا الأنموذج، فبدل الوطن بجواز نقله إلى بلاد الضباب يعبُّ من سلامها وجمالها عبًّا، مقايضًا الصورة المثاليّة التي كان عليه أن يجسّدها على أرض مدينته البصرة بصورة وديعة جسّدها على أرض أخرى ينفق فيها أيامه بعيدًا عن (مساوئ الوطن).
وسيكون هذا التضارُب ما بين الفكر والممارسة واضحًا مع المخطوط الذي أودعه آدم لدى فوزي فكان بمثابة الحرز أو الوصية التي تظل تذكّر المثقف بخيباته وبالطبيعة البشرية التي قرأها في سيرة هيوم. ولهذا السبب وصف فوزي المخطوط من منظور مؤسلب بأنّه (الكتابة عن المصير الذي آلت إليه المدينة). وهذا ما عزز التبئير الايديولوجي لوجهة نظر آدم وغلب بشكل نوعي الرجحان العددي لوجهات النظر الأخرى، لا سيما أن المخطوط حمل عنوان (أوراق التمارين) حيث (التمرين هو الطبيعة الحقة التي يكون عليها التمرن حيث لا ينبغي لهذا المتمرن لينجز أي تمرين سوى ان يكون هو ذاته مكتفيًا بعالمه) ص238 فالمخطوط تمرين يوقظ سُبات الانتلجنسيا المهزومة التي وجدت في بلاد الضباب خلاصها من بلاد الغبار، مزيلًا عنها وهم الشيخوخة ومظهرًا بطلان تمثيل دور الضحيّة. ولعلَّ إبقاء الكاتب على آدم حيًّا بعد تعرّضه للقصف الصاروخي توكيد لحقيقة أن الأمل ما زال قائمًا بأن تنفض الانتلجنسيا العربيّة الكسل عنها وتؤدي دورها الحقيقي في المجابهة والتغيير.
ــ الدور المساند الذي كان أداه آدم زيني لكل شخصية من شخصيات الرواية، عضد التبئير الايديولوجي، فهو الذي ساعد فوزي في الحصول على الجواز بعد وساطة قام بها ـ من دون علم فوزي ـ مع النقيب قصي مزاحم حسين وهو الذي أبدى احترامه لوجهة نظر والده ووالدته بالهجرة إلى لندن، أو وجهة نظر أخته وزوجها بالعمل خارج العراق مصرًّا على قرار واحد وموقف ثابت يتمثل في البقاء في المدينة على كل ما فيها من (مساوئ) البعوض والقيظ والجثث والمقابر والتلوّث والحروب والقتل والخطف وسوء البنى التحتيّة وأعباء المضايقات الأمنيّة بتهمة التجسس.
ـــ سيمائيَّة استعمال مفردتي (آدم) و (زيني) بكلِّ ما تعنيانه من الأصالة والسمو، عززت الترهين السردي حول وجهة نظر هذه الشخصية، وهو ما اعترف به الساردون الآخرون بطرق مختلفة كقول فوزي: (غبطت آدم زيني لجلده وللطاقة التي يتمتع بها نفسه في مقاومة إغراء السفر والهجرة عن مدينة مقفلة على خوفها والناي عنها باتجاه فضاء حر لا يذل فيه المرء ولا يهان في الحقيقة لم يتحمّل آدم ما يجب تحمّله لصالح البقاء إنما كانت له طاقته المدهشة على ان يكون هو وعلى أن يقيم حرًّا في هذه ال هو) ص243.
ـــ تعدد أشكال الوعي داخل الرواية أسهم في تبئير وجهة نظر آدم على حساب وجهات النظر الأخرى وأظهر ما تعانيه شريحة المثقفين من شرخ كبير بسبب عدم انسجام تطلعاتها ولا تجانس مبتغياتها. فأدت الحوارات المباشرة والمونولوجات دورًا في إظهار هذه التعددية على مختلف المستويات الفكريّة والطبقيّة. أما محصلة هذا التعدد فخطيرة وهي انقسام هذه الشريحة على نفسها ومن ثمَّ فشلها في أحداث أي تغيير مجتمعي قريب أو بعيد.
ـــ مسرحة الأحداث وتغذية الحبكة القصصيَّة بقصص فرعيَّة عزّزَ موقف آدم المتهم بالجاسوسيّة ظاهريًا لكنّه كان ثابت الجنان داخليًا، مما فضح مواقف الآخرين الناجين من هذا الاتهام ظاهريًا لكنهم منخورو الهياكل داخليًا بالعجز والشيخوخة (ما أصعب أن تكون الشيخوخة مثل المصائب لا تأتي فرادى. أحيانًا وفي لحظة قسوة غير متوقعة يستحيل الإنسان فجأةً إلى عجوز) ص211 فالبون شاسع بين تضخّم ادعاءاتهم وسفسطاتهم وبين خلو وفاضهم من أية قاعدة مجتمعية يمكن لهم أن يبنوا عليها وجودهم.
ـــ أضفت المحاكاة الساخرة على الأحداث مسحة تراجوكوميدية عززت التعددية الصوتية ومركزت وجهة نظر آدم، فبدت الذوات الساردة ساخرة من وضعها ومرارة انهزامها من وطن ظل وحده يلعق جراحه. وإذا كانت غيبوبة آدم قد قادته إلى لندن، فإنَّ إفاقته أكدت أن الوطن معه في وعيه ولا وعيه وبغباره وقيظه وبعوضه وخرابه وسوء أحواله. وهذا ما يجعل من آدم بطلًا وأمثولة للمثقف القابض على مبادئه قبضًا، فلم ينقسم ولم يتهجن ولم يزدوج، وظل الوطن مشروع حياته ومن دونه يموت (مثل ملاك هائم مثل طير لغريزة اهتدائه إلى مكانه يمضي النور حرًّا آخذًا معه طيفًا من الجسد الراقد بأمان وسلام إلى أن يصل به إلى هناك إلى البصرة المدينة التي تحيا فيه ويحيا فيها حتى وهو هنا يتماثل للشفاء على سرير وحدته في المستشفى الملكي في لندن) ص341.
ـــ عدم تجانس وجهات النظر جعل الوعي القائم يتضارب مع الوعي الممكن، وهو ما ساعد في فرز موقف ايديولوجي واحد جسّده آدم زيني بحكمته التي بدا فيها متصالحًا مع نفسه (لا تجعل من صدرك مستودعًا للأسرار ليكن الصدر مدفنًا لها. دع الأسرار تمضي في النسيان) ص14 وأحيانا يقوده زهده إلى أن يبدو كفيلسوف أو متصوف. ولم تأتِ هذه الخصال من فراغ بل هي حصيلة توافق الوعيين القائم والممكن داخل آدم، فكانت قراءاته للشعر وترجماته لنصوص الشعراء والنقاد والمفكرين متجسدة حقيقة في فكره وعمله، تلهمه القدرة داخليًا على تشكيل عالمه الخارجي. وعلى الرغم من انه ولد بلندن وأمه بريطانية لكنه كان ملتصقًا بمدينته البصرة وتحديدًا البراضعيّة حدَّ الموت وكان يجد ذاته في شعرائها وكتابها محمود البريكان وسعدي يوسف اللذين يرد ذكرهما على لسانه في الرواية.
العتبات النصيَّة التي بموجبها توزعت الرواية بين أربعة أقسام ولكل قسم استهلال، أسهم في توجيه القارئ توجيهًا شعريًا دعم وجهة النظر الايديولوجية كهذا الاستهلال (حين تصنع الحكومات الحروب على الناس، تحصّن أرواحهم من الخراب الذي تخلفه الحرب فيهم) أو (المدن التي في دواخلنا وليست تلك التي على الأرض) و (الأبقى هو ما يضيع).
إنَّ هذه الموجبات هي التي فرضت تبئير وجهة نظر (آدم) الايديولوجية على ما للرواية من تعدديّة صوتيّة، اختزلتها سيميائيًّا العتبة العنوانية (غريزة الطير) حيث الطير هو آدم الذي غرّدَ خارج السرب ومع ذلك استطاع أن يجمع السرب كله نحوه ويكون هو المركز فيه لا الهامش، في إشارة اليغورية إلى أن الطبيعة البشرية لا تستطيع أن تتنكّر لغرائزها التي أودعها الله فيها وتلك حكمة عرفها آدم وأنكرها غيره ولم يرد الاعتراف بها سرًّا ولا علنًا.