الرقص.. سرديَّات الأنثى

ثقافة 2023/09/19
...

 ناجح المعموري 

مثلما تنوعت وظائف أرتميس اتسعت مسؤوليات عذراواتها وكادت التماثل في العناصر المكونة لها والتطابق بالخصائص المميزة وكل واحدة من العذراوات محاكية للالهة، ولأن أرتميس حاملة شعلة النار، باستمرار، ولا تنطفئ في معبدها نهارًا وليلا وكل عذراواتها حارسات للنار، مراقبات لها حتى لا تنطفئ وقال فراس السواح إن للجرار المقدسة قيمة طقسيّة كبيرة لدى العديد من ديانات عصور الكتابة. من ذلك مثلا الجرار الفخارية التي كانت تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار، سيدة الشعلة في روما ومن ذلك الجرة المقدسة التي كان يحفظها العبرانيون داخل تابوت العهد مع لوحي الوصايا اللذين تلقاهما موسى من يهوه.

ولأنَّ أرتميس إلهة قمريَّة فهي مرتبطة به ولها صفات القمر، مثل البريق والإضاءة والتغير. وتدعو حكمة القمر الجسد إلى اللعب الحر، إلى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعًا لنفسه ويعكس طاقته نحو نفسها، محولًا الحرية الماديّة إلى نشوة روحيَّة ووجد صوفي، فالإنسان في الديانة العشتاريَّة لا يعرف الصلاة، بل يعرف الرقص، وفي المناسبات الداعية للصلاة في الديانة الشمسيَّة، نجد الإنسان العشتاري يرقص. وهو في رقصه لا يعبد إلهًا بعيدًا منفصلًا، بل يعيش إلهًا يتلمسه في أعماق نفسه. وفي قمة النشوة وعندما يتحقق للراقص الانفصال التام عن مبدأ الواقع، ويشعر أن حركته تتلاشى عند نقطة ثابتة في مركز ذاته، يتوقف الزمن في ومضة عند شاطئ الأبديَّة، ثم انطلقت. 

سكر ومخدر وموسيقى ورقص تلك هي عدة الغيبوبة العشتاريَّة التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس إلى نداوة القمر، عدة كانت عبر تاريخ الثقافة الذكريَّة، وسيلة للتمرّد والحلم تمرّد على النظم العقلانيَّة المسيطرة التي تجعل من الفرد عبدًا مسخرًا للقوى الاجتماعيَّة الطاغية وديانتها البطرياكية. وحلم بعالم أمومي جديد وفردوس عشتاري أرضي يُعيد للجسد الإنساني قدرته على اللعب الحر، ولروحه طاقتها غير المتناهية. 

 ويمثل الرقص تاريخًا للحضارة التي أبدعها شعب من الشعوب، فإنّه يعني صورتها الدينيَّة وممارساتها الطقسيَّة، وهو الراوي عبر الحركة لذلك التاريخ الحافظ له من الاندثار، لأنَّ الأجيال تسلم فنونها وشعائرها جيلًا بعد جيل، مؤكدًا على ملامحه الوطنيَّة وتقاليده في الحياة.. وهناك رقصات ذات وظائف سحريَّة معنية؛ ولذا نجد بعضها محاكيًا ومقلدًا لحركات الحيوانات. وارتباط الرقص بالسحر لم يكن مقترناً بالقبائل البرّية التي ظلت لفترة طويلة تعيش على جمع القوت وإنما ظل هذا الارتباط ـ الرقص والسحر ـ ممتدًا في التاريخ. 

الرقص وظيفة الإلهة الأنثويّة، وطقس تحرص عليه باستمرار، لأنّها إلهة قمريَّة تمارسه كثيرًا وان صمتت عن ذلك أساطيرها، لأنه ومن خلاله يتبدّى جسدها راعشًا ومرتجفًا كالقمر، مهتزًّا من الرأس حتى قدميها وكأنها تعلن من خلاله عن المختزن اللذّي والطاقة الأنثوية الحبيسة، التي لا تجد وسيلة لتسربها إلا من خلال الرقص. طاقة الأنثى بحاجة الى الآخر/ المذكر، كي يحققا معًا مبدأ الاتصال والتداخل وعندما تتحصّن الأنثى ضده، تجد وسائلها الخاصة لتحقيق اتصالات رمزيّة مثل الرقص والنزول للنبع. 

الرقص طقس التباهي بالجسد والإعلان عن طاقته والكشف عن مخزونه وحنينه الى الاتصال، الذي لم يتحقق، رعدة الجسد فصاحة العلامة الكافية للتعبير والإعلان والنداء للمذكر الغائب والحاضر، المستدعى تخيليًّا والمشارك في التصورات التي تتشكّل تدريجيًا سرديّة عن الجنس تنمو وتتصاعد وتخفت، لكنها تعاود ثانية، الأنثى/ المرأة لا تكتفي، بل تريد المزيد.

للرقص وظيفة دينيَّة، وهو أول الطقوس التي زاولتها الإلوهات المؤنثة وكاهناتها واستجابت لهن النساء ولأنّه ـ الرقص ـ فن المرأة ووسيلتها مع الخمر والعطر لاستجلاب الرجولة ظل مقترنًا بها، كاشفًا عن مفاتنها. المرأة ترقص، وتبثّ شفراتها للآخر وتدعوه للاتصال التخيلي والتبادل لتقول له بأنّها هادرة في كل لحظة ولن تتعطل رغبتها، وكلما شحّت بالجسد استدعاها وفاض بها، لا تنضب أشياؤها، تمتلئ بها في كل حين. 

الرقص مرآة كاشفة عن بؤر لذة الأنثى/ المرأة، الحركة معلنة عنها وتتكتم على بؤرة واحدة فقط، ما الذي تفعله المرأة وهي ترقص وترفع ذراعيها للأعلى كاشفة عن فرجين تحت أبطيها، شعرهما خفيف مثل الذي توزع على تبتها. حركة الذراعين ممارسة سحريّة وإغوائيّة وقال فراس السواح: تتضح القيمة السحريّة لذراعي المرأة المرفوعتين.. نجد رجلين يقومان بإسناد ذراعي المرأة المرفوعتين، وذلك لإطالة مدة وقوفها على هذه الهيئة وإدامة فترة تأثيرها السحري.

وفي ذروة الرقص ورعدات الأطراف، ترفع الأنثى القيود عن أسرارها فينفلت المخفي لحظة الزوغان والتموّج والاهتزاز، ترسل كل هذا لتستدعي تخيليًا الآخر ليكونا معًا في زمن واحد، هو زمن الجسد. الرقص الطقوسي يجدد حيويّة الجسد ويديم غزارة رغبته، ويهب المرأة القدرة على إرسال نداءات سريّة لطرف آخر تلك النداءات هي توسل من أجل اكتمال الحياة بوجود طرفين. 

يبدو لي أنَّ للرقص صلة بالسحر، لأنَّ رفع اليدين أثناء الرقص، هو وسيلة الساحر اثناء ممارسة شعائره الخاصة. ورفع المرأة لذراعيها هو لاستمرار الطاقة العشتاريَّة الخفيَّة وتمثلها في داخل جسدها، واطلاقها من ثمَّ عبر بوابة رحمها في قناة خفية كما قال فراس السواح.

رقص وغناء حوريّات أرتميس طقس ديني انثوي، يعلن من خلاله عن الجسد وصفاته الطقوسية والجنسية لأننا لا نستطيع الفصل بين الجسد ومخزونه اللذّي. والعلاقة الحاضرة هي بين امكانات المذكر الهائلة والطاقة الانثوية المستفزة له فتحقق الاشتعال في الجسد الملتهب ومحيطه الخارجي. وتخفف أرتميس وعذراواتها بالرقص عن اثقال اجسادهن ويطرحن الفوران المتعي نحو المحيط الخارجي ممثلًا له بالاهتزاز والارتعاش انهما فيضان الجسد برغبته المعلن عنها.

تعامل الاغريق مع الشخص غير المتعلّم بأنّه شخص لا يعرف الرقص الذي هو العلامة الفارقة للإنسان المتعلم وهذا يعني، أن الرقص وقتذاك كلهن بمثابة الملح للطعام في المجتمع، حيث من خلاله، أو اعتمادًا عليه، كان يسهل نقل المعلومات، أو يتم التثقيف، أو تنشأ عملية التربية بالذات.. الرقص سلوك جمعي، استقطابي عام. أن في السلوك القائم هذا، يمكن التمييز بين الاشخاص، معرفتهم في مراتبهم ومدى نضجهم. 

ولأنَّ الرقص تمظهر الإلهة الأنثى والأم الكبرى في الحضارات الشرقية، صار معيارًا للثقافة وليس للتعلّم وكلما كان المذكر أو الأنثى مجيدًا للرقص فإنّه الأقرب إلى المثقف الذي يعرف أكثر من غيره عن أمور الحياة. بمعنى هو شخص حضاري، يقيم اعتبارًا للجمال وقادر على معرفته والتوصل إليه. ومتى كان الشخص مدركًا لأهمية الجمال فإنه قادر على ابتكار ما هو جديد وباستمرار.

الجسد الراقص شعريّة، ولا بدَّ من شعريّة في الحياة. وطاقة الشعر لا تضاهيها طاقة، في الشعر زمكانيّة وفي الرقص حضور دائم للزمان والمكان والإنسان. رقص أرتميس لا مرئي/ مطلق/ لا محدود/ مخفي/ والمرئي رقص العذراوات الشفاف/ السرمدي/ في حنينه للاتصال والتبادل الروحي الحي.

والرقص توتر وشحنات معبرة عن الكينونة «وبإمكان الجسد أن يقول ما لا يمكن أن يقوله الفكر» المعنى متجسّد دائمًا والجسد حامل للمعنى».