عادل الصويري
لا بأس – عزيزي المثقف – أن تطرحَ الفكرة، لكن لا تكن حارساً عليها، وكأنَّها مُقَدَّسٌ عَيَّنَكَ بكتاب مُزوَّرٍ سادناً عليها؛ لأنَّكَ في الحقيقةِ تُقَدِّمُ هشاشَتَها على طبقٍ مُذَهَّب. سُرعانَ ما سَتجدُها ضحية حراستِك الانفعالية والعاطفية.
الفكرةُ بالنسبة للمثقف أداةٌ لتأمُّلِ الحياة، وأسرارها وجماليّاتِها وَقِيَمِها، إذ تعمل على إنتاج علاقات حديثة مع الحقيقة، وتفسح المجال للحيوية؛ كي تتحرك.
الفكرةُ إذن : حرية تُدْخِلُكَ بأمانٍ إلى منظوماتِها اللغوية والفكرية والتأملية. والمثقف الذي يطرح فكرته هو الذي “يُقيمُ علاقة نقدية مع ذاته وفكره” بحسب تعبير (علي حرب)؛ ليستوعبَ التحولات التي تنأى به عن الوهم الذي استولى عليه بشكلٍ كُلِّيٍّ لحظة صار حارسَ فكرتِه، مستمتعاً بكذبةِ المتنبي الظريفة: “أنا الطائرُ المَحْكيُّ والآخرُ الصدى”.
وحتى لا يبدو مصطلح المثقف عائماً، وكريماً، ويُطلق على كثيرين من دون مناسبة؛ لابد من تشخيصه من خلال الفكرة التي لها مرجعية واضحة المعالم، بمعنى الوصول إلى دلالات الفكرةِ ومقاصدِها، خصوصاً مع تسارع الأحداث والمتغيرات التي تعصف بالعالم، والتي وضعت المثقفين على المحك وجعلتهم عرضة للتساؤل الجاد عن دورهم، وعن جدوى هذا الدور، ومدى فاعليته في ظل التطورات الحاصلة، إذ إن الكثير منهم تخلوا عن وظيفتهم تجاه المجتمع بعدة مظاهر أبرزها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي حول المثقف إلى آلة معرفية غايتُها المال المؤدلج؛ ليصبح المال قيمة عليا جردته من صفته الثقافية، بينما ينبغي عليه التصالح مع ذاته وفكرته قبل التصدي لنقد الممارسات الاجتماعية وتشخيص سلبياتها وإيجاد الحلول لمشاكلها المستعصية، هذا الوضوح مع الذات كفيل بتقديم رؤى ناضجة تضمن عدم تسلل الأفكار المربكة لكثير من مثقفينا اليوم، وهم يعيشون صراعاً لم يعد خافياً بين الثبات على الهوية، أو التخلي عنها تحت مسميات وذرائع شتى.
هذا الصراع ناتج عن مأزقين اثنين: مأزق عدم التصالح مع الذات، ومأزق طريقة التفكير المشوشة التي جعلته عاجزاً عن القيام بدوره، إلاّ من خلال تنظيرات يحاول بها عبور مآزقه المتكررة، فتتحول تلك التنظيرات إلى أقفاص تسجنه داخلها، من دون أن يتقدم خطوة واحدة لتفكيك أسباب عجزه، حتى لو خدع خارجَ قفصِهِ أنه من الفاعلين والمؤثرين في القطّاع المعرفي والثقافي، في هروب مكشوف إلى الأمام، والتخفي وراء المصطلحات.
لن يتصالح المثقف مع الفكرة، في حال استسلم للظرف الذي جعله مندمجاً في البُعد الذي تكرسه السلطة، فيتحول إلى كائن ديماغوجي، أبعد ما يكون عن تشكيل الوعي والقناعة والذائقة، فتتقلص مساحةُ وجوده التي هي ضيِّقة أصلاً.
الوجود الحقيقي للمثقف، يعني إعادة النظر بالمفاهيم وفق الواقع الذي يعيشه، وأهمها بطبيعة الحال مفهوم الحرية؛ لأنه من أكثر المفاهيم التي أدت نتيجة الاستيعاب الثقافي الخاطىء، إلى الفهم المعاكس لها وهو التسلط، لكنه تسلطٌ باسْمِها.
وغير مفهوم الحرية مفاهيم كثيرة فقدت محتواها نتيجة التحولات الكبيرة التي طرأت على العالم، والمثقف ليس ببعيد عن مسرح الأحداث.
صار من المهم أن نعرف التحولات التي تحدث في المفهوم، أكثر من الاندماج فيه، والجمود عليه على نحو عشوائي. وهذا يستلزم ولادة أجيال ثقافية جديدة، لا تنحرج من وضع المفاهيم المرتبطة بالحياة على طاولة النقد والتفكيك، وتُفعِّل العقل النقدي من دون ضغوطات.