علي العقباني
ثمَّة مقولة شهيرة لا أدري من قالها يوماً ولمَ؟، تقول إنه لو حكمت النساء العالم لوفرت البشريَّة على نفسها الكثير من الحروب والدماء والضحايا والموتى والدمار، ولاكتفينا بالمفاوضات واللقاءات والصور التذكاريَّة، إنهنَّ النساء فقط من يفعلنَ ذلك.
عانت البشرية من عنف الرجال على مرِّ العصور، فالبشرية لم تشهد حتى زوال العصر الأمومي أي حروب دموية كبرى، لكن ومنذ سيطر الرجل على الأرض والمال والسياسة والدين وأعلن نفسه إلهاً بدل المرأة الآلهة أو الربة الأم أو ربة الخصب أو ربة المهد والليل أو ربة الجنس والجمال أو ربة الأرباب... شكل الرجل وقتها دينه الذي أسس لمجتمعات ذكورية مارست القتل والحروب والغزوات.
في كتابه الشهير (لغز عشتار) يرى الباحث فراس السواح أنَّ الاعتقاد الذي كان سائداً حتى أواسط القرن التاسع عشر أنَّ المجتمع الذكوري هو الذي كان سائداً حتى في المجتمعات القديمة، وقدمه من قدم المجتمع الإنساني، إلا أنَّ هذه الفرضية قد تهاوت أمام النقد العلمي الذي وجّه إليها من قبل عدد من رواد الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية، وربما علماء التاريخ والآثار، حيث قاموا بتقديم الأدلة الكافية على وجود شكل أقدم من المجتمع الذكوري وهو المجتمع الأمومي، الذي لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب بل على القيم الأنثوية ومكانة الأم، إذ إنَّ التجمع الإنساني الأول لم يؤسس بقيادة الرجل المحارب الصياد بل تبلور حول الأم التي شدت من خلال عواطفها ورعايتها، الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة وهي العائلة الأمومية التي تُعد خلية المجتمع الأمومي الأكبر، وهنا لن ندخل في صفات ذلك المجتمع وبنيته ودور المرأة والرجل فيه، ونوع العلاقات التي كانت سائدة فيه، حسبي القول هنا فقط إنه ومن وجود شعلة النار المقدسة في معابد الحضارات المتأخرة وقيام عذراوات المعبد بحراستها والإبقاء عليها مشتعلة نستنتج بأنَّ شعلة النار الأولى قد أوقدتها المرأة وكانت أول حارس عليها وحافظ لأسرارها، حتى توجت المرأة دورها الاقتصادي في هذا المجتمع باكتشاف الزراعة ونقل الإنسان من مجتمع الصيد إلى مجتمع الإنتاج الغذائي، بينما حافظ الرجل طيلة هذه المرحلة على دوره التقليدي في الصيد والتنقل بحثاً عن الطرائد الكبيرة، ففي بابل مثلاً لم يستطع الرجل وحتى فترات متأخرة جداً من تاريخ المجتمع الذكوري هنا، أن يضع تحت وصايته حياة المرأة الجنسية قبل الزواج، فكانت بكارة المرأة ملكاً للآلهة عشتار، لا لزوجها المقبل، وكانت تهب عذريتها في المعبد حيث تمارس الجنس المقدس تحت رعاية الآلهة قبل أن تلتزم حياة الزوجية.
وكذلك كان المجتمع الأمومي واضحاً عند المصريين القدماء وكذلك لباقي الحضارات الشرقية، حتى أننا نلاحظ بقايا المجتمع الأمومي واضحة لليوم ولكن المميز طيلة تلك الحقبة من المجتمع الأمومي وعشتار الأم الكبرى عدم حدوث حروب.
في تلك الحروب البشعة التي يصنعها الرجال “في عام 2022، شهد كوكب الأرض 27 صراعاً مسلحاً، وكما هو الحال دائماً في تاريخ البشرية، فإنَّ الرجال هم صانعو قرار الحرب ووقودها”، والحكومات والأنظمة العسكرية وشركات الأسلحة والمصالح والاقتصاد وغيرها أمس واليوم، سيكون الرجال على خط النار في مجاهل القتال والقصف والموت، وربما سيكون معهم بعض المقاتلات المجندات ممن تطوعن للمشاركة في القوات الدفاعية، فيما الغالبية العظمى من النساء باقيات في الخطوط الخلفية يقمن بمهامهن القيادية والإدارية لتيسير الشؤون الحيوية الخاصة بالمشافي الميدانية ومهام الإطعام وتنظيم عمليات اللجوء والنزوح، وإدارة شؤون ما بقي من البيت والعائلة، وفي الحروب الأهلية ستكون المرأة هنا أيضاً عرضة للموت والاغتصاب من الفصائل المتقاتلة وستعاني ويلات تلك الحرب خوفاً وهروباً ومسؤولية أكبر اتجاه الأولاد، وستنتظر أيضاً زوجها أو ابنها أو أخاها أو أباها المنخرط في القتال والذي سيعود غالباً ميتاً، هذا إن عاد ولم تكتف الجهات العسكرية إعلامها فقط بخبر موته ودفنه في مكان بعيد، قصص ومآس خبرتها جيداً النساء في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وفي أماكن نشوب الحروب وعبثيتها ودمارها المجنون لكل شيء حي، ومع ذلك لا يكف الرجل “بمعناه الذكوري المسيطر والمهيمن والقوي وصانع الأسلحة” عن صناعة الحروب والدمار والموت أينما حل، بينما تُظهر النساء حتى وهنَّ في الملاجئ ومراكز الإيواء وهنَّ يلتحفن السماء أو غطاءً بالياً تداري وجعها وقهرها مخفية دمعتها وخوفها وضعفها وألمها وقسوة ما تعيش به الآن، ستجد ما تعبر عنه ومن خلاله عن معنى المرأة وعظمة الأنوثة، واحتفاظهن دوماً بهامش سحري خفي ليبقين خلّاقات ومدهشات في مقدرتهن اللامحدودة على صناعة الجمال وسحر الحياة والبهجة والاستمرار ومعنى الوجود، وإعادة بعض التوازن والروح والمعنى الهام للوجود وبناء السلام في هذا العالم الذاهب نحو حروبه التافهة ومنجزاته الخرقاء، إنهن يفعلن ذلك بحكم طبيعتهن وتكوينهن، وهن يعرفن أنه ربما تقوم حرب كبيرة من أجل امرأة.