عبدالأمير المجر
قبل أن يجتمع الثلاثة الكبار (الزعيم السوفييتي ستالين، والرئيس الاميركي روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل) في القرم مطلع العام 1945 لتنسيق الجهود قبل الهجوم على ألمانيا واليابان وتقاسم النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أرسل هؤلاء ممثليهم إلى واشنطن وتحديدا إلى فندق قريب منها اسمه (دومبارتون أوكس) حيث مكث هناك الخبراء القانونيون والسياسيون من منتصف آب/ اغسطس العام 1944 ولمدة شهر تقريبا، لتأسيس منظمة دولية جديدة بدلا من (عصبة الامم) التي عصفت بها الحرب.. لقد وضع هؤلاء ميثاق (هيأة الامم المتحدة) التي اسهمت معهم في صياغته الصين (قبل ان يصل الشيوعيون الصينيون إلى السلطة).. وبذلك اصبح القرار الدولي بيد هؤلاء من خلال ما منحوه لأنفسهم من صلاحيات استثنائية متمثلة بـ (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، وأضيفت إليهم لاحقا فرنسا التي كانت وقت صياغة الميثاق، محتلة من قبل ألمانيا، لكنها ظلت تحتفظ بمستعمراتها الواسعة وأهميتها كدولة أوربية محورية.
يكثر الكلام اليوم عن غزة ومستقبلها بعد الحرب، لكن الذي يراقب الأحداث ويقرأ ما بين سطور التصريحات، سيجد أن الأمور متجهة إلى ما يشبه مؤتمر (دومبارتون أوكس)، أي أن الكبار في العالم بدأوا فعلا في وضع ترتيبات لوضع ما بعد الحرب في غزة، ولعل ابرز ما يشير إلى ذلك، ما قاله الرئيس الاميركي بايدن عندما صرّح بوجوب ان تنتهي الحرب بين اسرائيل والفلسطينيين نهائيا!، وهذا الكلام يعني ان بايدن يعمل على انهاء الصراع بشكل كامل أو انهاء اسبابه من خلال حل شامل للقضية الفلسطينية، لا سيما انه تحدث عن ضرورة ان تكون غزة خاضعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تمهيدا لحل الدولتين، وهو ما صار يتحدث عنه الكبار في العالم ايضا بمن فيهم الزعيم الصيني وقبله المستشار الالماني والرئيس الفرنسي وغيرهم .. وهذا يشير إلى ان في الكواليس شيئا يعد بصمت، على غرار ما أعدّ في فندق (دومبارتون أوكس) الذي انهى اعماله من دون ان يعرف العالم الذي وجد نفسه بعد الحرب امام منظمة دولية جديدة، قرر شكلها ومضمونها الكبار!
السؤال الذي يطرح نفسه، هو أين صوت العرب الموحد ازاء ما يتم التخطيط له، بعيدا عن المهاترات الاعلامية أزاء ما يحصل في غزة، لان هناك تفاصيل كثيرة تكمن فيها آلاف الشياطين، لا سيما ان اسرائيل التي سترى نفسها منتصرة بهذه الحرب، سيكون موقفها اكثر تشددا في قضايا حساسة، كانت وما زالت محط خلاف بينها وبين الفلسطينيين والدول الثلاث المحاددة لها، سوريا والاردن ولبنان، لأنّ المؤتمر الدولي المقبل الذي يجري الحديث عنه ستكون مخرجاته ملزمة للجميع، وسيتم التعامل معها على انها تمثل الحل النهائي للمشكلة.. لا شك ان واقعا دوليا جديدا أخذ يتبلور في السنين الاخيرة، عنوانه تعدد المحاور، وان اميركا واوربا والدول الاخرى القريبة من ثقافتهم السياسية، يعملون على صياغة محور كبير ينبغي ان يقود العالم وتقوده اميركا، فالمحاور الدولية الجديدة، باتت تهدد نفوذ اميركا وشركائها في اكثر من ميدان، ويجب ان يقطع الطريق عليها أو ايقاف تمددها إلى الشرق الاوسط الذي يمثل خزان الطاقة الاكبر في العالم، ولا بدَّ من إحكام اميركا وشركائها قبضتهم عليه، وعدم فتح أبوابه أمام قوى عالمية أخرى منافسة.
حرب غزة ستكون مدخلا لواقع جيوسياسي جديد.. وعلينا ان نعرف ذلك ونعرف كيف ستكون صورتنا وموقعنا فيه سياسيا واقتصاديا وأمنيا.