آلام نيتشه

ثقافة 2023/12/13
...

تيم برينكوف

 ترجمة: عبود الجابري

في خريف عام 1888، كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه يسير إلى دار الضيافة الخاصة به في مدينة تورينو الإيطاليَّة عندما شعر بزوايا فمه تتلوى إلى الأعلى كما لو كان هناك من يقوم بسحبها. وكتب لاحقًا في رسالة إلى صديق: “كان وجهي يتجهَّم باستمرار من أجل محاولةِ السيطرة على سعادتي القصوى، بما في ذلك تكشيرة الدموع التي تستغرق دقائق”.

لسوء الحظ بالنسبة لنيتشه، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 44 عامًا، أثبتت نوبات الضحك التي لا يمكن السيطرة عليها أنها بداية لشيء خطير. خلال الأسبوع التالي، لاحظ أعضاء آخرون في دار الضيافة أنَّ الفيلسوف بقي في غرفته لعدة أيام متتالية. وقد لفت انتباههم عندما نظروا إلى الداخل أنَّ مؤلف كتاب “هكذا تكلم زرادشت” عار، يعزف على البيانو، ويرقص مثل رجل ممسوس.
وصلت حالة نيتشه العقلية المتدهورة بسرعة إلى نقطة الانهيار عندما رأى، في يناير 1889، حصانًا يُجلد في ساحة البلدة. صرخَ بشكلٍ غير متماسك، وركضَ إلى مكانِ الحادث وألقى ذراعيه حول الحيوان قبل أن ينهار. أثناء زيارته لنيتشه وهو يتعافى في وقتٍ لاحق من الأسبوع، وجد فرانز أوفربيك أقرب أصدقائه في وهمٍ “لم يخرج منه مرة أخرى أبدًا”.
أشار أوفربيك إلى أنَّ نيتشه كان واضحًا تمامًا بشأن من أكون أنا والآخرين، لكنّه كان غارقاً في الظلام بشأن نفسه، وفي بعض الأحيان، كان يصدر- بصوتٍ هامسٍ- عباراتٍ ذات لمعان رائع. لكنَّه نطقَ أيضًا بأشياء فظيعةٍ عن نفسه باعتباره خليفةً للإله الذي يموتُ الآن، وكان الأداءُ بأكمله يتخللهُ باستمرار عزفٌ على البيانو. واليوم أصبح الانهيار العقلي الذي تعرض له نيتشه، والذي أدى إلى شلله الجزئي، ثم في النهاية إلى وفاته المبكرة، مشهوراً كما هي فلسفته.
التاريخ الطبي لفريدريك نيتشه
من الممكن أن يكون انهيار فريدريك نيتشه ناجماً عن مرضٍ كامن، ولكن ما هو نوعه؟ قام الأطباء الأوائل الذين فحصوا الفيلسوف المريض بتشخيص إصابته بمرض الزُهري، والذي يمكن أن يؤدّي إلى الشللِ وحتى الخرَف. اقترحت الدراسات اللاحقة أنَّ نيتشه ربما عانى من ورمٍ في العصبِ البصريِّ الأيمن من دماغه، والذي كان من شأنهِ أن يسبّب مشكلات مماثلة.
في حين أنه لا يمكن التأكد من السبب البيولوجي الدقيق لانهيار نيتشه، فمن الجدير بالذكر أنَّ الفيلسوف كان لديه تاريخ من الأمراض الجسدية والنفسية. منذ أن كان طفلا، عانى نيتشه من الصداع النصفي المقزّز. وفي عمر 26 عامًا، أصيب أيضًا بالدزنتاريا، فعالجه باستخدام هيدرات الكلورال، وهو مسكّنٌ قوي يسبّب الهلوسةَ والتشنّجات ومشكلات في القلب.
على مر السنين، أثّرت آلامُ نيتشه المزمنة في صحَّته. كتب ذات مرة في إحدى رسائله: “كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر أقضي نحو ستّاً وثلاثين ساعةً في السرير، في عذاب حقيقي (...) إنه لأمر مرهق للغاية أن أستهلك النهار بهذه الطريقة، لدرجة تنعدم فيها المتعة عند حلول المساء، لا متعةَ تبقى وأنا مندهش حقًا من مدى صعوبة الحياة، ولا يبدو أنَّ الأمر يستحقُّ كلَّ هذا العذاب.”
كما أنَّ عدمَ نجاح الفيلسوف- إذ لم يصبح مشهورًا إلّا بعد وفاته- وقلَّة التواصلِ الاجتماعي كانا من أسباب التوتر الذي يعاني منه. يقول في رسالةٍ: “يؤلمني بشكلٍ مخيف أنَّه خلال هذه السنوات الخمس عشرة، لم يكتشفني شخصٌ واحد، لم أجد من يحتاجني، أو يحبّني” ويضيف” نادراً ما كان يصلني صوتٌ ودود، أنا الآن وحيد، وحيدٌ بشكلٍ سخيف”.
هذه البيئة النفسية، التي اعتقد نيتشه أنه ورث بعضها عن والده المريض، أقنعته بأنه سيموت موتًا مبكرًا ومؤلمًا. وتعبر عدّةُ رسائل كتبها عن تزايد مخاوفه من الإصابة بالجنون ويضيع عقله في المتاهة: “... في بعض الأحيان، يراودني شعور بأنني أعيش حياة خطيرة للغاية، لأنّني واحدة من تلك الآلات التي قد تنفجر”.
الإبداع والذكاء والأمراض النفسية
أظهرت العديد من الدراسات أنَّ الأشخاص المبدعين هم أكثر عرضة بمرتين للمعاناة من حالاتٍ مثل الاكتئاب والقلق مقارنة بعامة السكان. وفي الوقت نفسه، يختلفُ معدَّل وشدَّةُ هذه الأعراض باختلاف التخصص، إذ ثبتَ أنَّ الشعراءَ والكتّاب أكثر عرضةً للمعاناةِ من الاضطرابات مقارنةً بالعلماء على سبيل المثال.
ورغمَ أنَّ الإبداعَ والاضطراباتِ العقلية قد يكونان مرتبطين إلى حدٍّ كبير، فمن الخطأ الافتراض- كما تفعل العديد من الكتب والأفلام- أنَّ الاضطرابات العقلية تعزّز الإبداع بطريقة أو بأخرى. في الواقع، تشيرُ كلٌّ من الأبحاث العلمية وأدلّةُ السيرة الذاتية-بما في ذلك حالة نيتشه- إلى العكس: فمثلُ هذه الاضطرابات، جنبًا إلى جنب مع إدمانِ الكحول، وإدمانِ المخدرات، والتفكير في الانتحار الذي تسبّبهُ غالبًا، تعملُ على توقّف إنتاجيّةِ الشخص ببطء.
ولكن في حين أنَّ المرض العقلي لا يسهم بالضرورة في الإبداع، فإنَّ المنافذَ الإبداعيَّة قد تسهمُ في المرض العقليّ. هذا، في الأقل، هو ما اقترحه “أوتو بينسوانجر”، مدير مستشفى الأمراض النفسية الذي استقبل نيتشه لفترة وجيزة. وفي حديثه مع والدة الفيلسوف، أشار إلى أنَّ الطاقة الفكرية والعاطفيّة التي وجّهها نيتشه إلى عملِه أفرطت في تحفيزِ جهازه العصبيّ، مما أدّى إلى احتراقِ دماغِه بشكلٍ محزن.
الإله الجديد
تؤدي فرضيّة الطبيب “بنسوانجر” المثيرة حول الدماغ إلى الجزء الأكثر إثارة للاهتمام والتأمّل في خلاصة كتبها عن انهيار نيتشه: “يحتملُ أنَّ جنونه لم يكن مجرد حادثٍ بيولوجي، بل نتيجة منطقيَّة للأفكار الفلسفية التي أمضى حياته في السعي إليها”..
أيّ شخصٍ مُطلَّع على فريدريك نيتشه، ولو عن بعد، يعرف أنَّ المعاناة تلعبُ دورًا مهمًّا في كتاباته لأنّها جعلتهُ، كما تقول الباحثة فيفيانا فاشي، “أكثر وعيًا بوجوده”. بالنسبة لنيتشه، الألمُ يسبق التطوّر الشخصيَّ وتحقيقَ الذات. كما أنَّه يمثّلُ أصلاً لأحد أشهر أقواله: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”.
يشرحُ الفيلسوف هذا السطرَ الذي غالبًا ما يتمُّ اقتباسه بشكل خاطئ في كتابه “العلم المرح”، قائلاً: “... أما بالنسبة للمرض، ألا نميل إلى التساؤل عما إذا كان بإمكاننا العيش بدونه؟...وحده الألم الكبير، الألم الطويل البطيء الذي يأخذ وقته- والذي نحترق فيه، بما يشبه اشتعال الخشب المبتل- يجبرنا نحن الفلاسفة على النزول إلى أعماقنا النهائية، والتخلي المطلق عن اليقين السابق”.
إنَّ رحلة نيتشه للتأمل واكتشاف الذاتــ وهي رحلةٌ محفوفةٌ بالمخاطر إذا صدَّقنا أمثال سيجموند فرويد وكارل يونجــ لم تكنْ بدافع الفضول، بل الضرورة. من خلال التحديقِ في الهاويةِ التي تقعُ داخل الدماغ البشري، كان نيتشه يأمل في اكتشافِ نوعٍ من الحكمة المجردة- وأشارَ إليها باسم “حجر الفلاسفة”- من شأنِها أن تجعلَ معاناتِه الجسديَّة محتملة.
ذلك ما يؤكّد منطقية ما رواه صديقه المقرّب “أوفربيك” الذي وصف معاناته وصفاً انطباعياً، لكنّه يحمل الكثير من الاحتمالات الموجعة: “حتى في حالة الجنون، ظل نيتشه واضحًا تمامًا بشأن محيطه والأشخاص الذين تفاعلوا معه، كان أشبهَ بمن فقد بصره في الظلام”.

____________
- تيم برينكوف: كاتب ألماني مختص في تاريخ الفن والأدب يقيم في نيويورك
- المصدر: The Big Think Magazine