وسائل التواصل ليستْ شرًا مطلقًا
د. عبد الجبار الرفاعي
هجاء الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة والتكنولوجيات الجديدة والتقدم لا يختصّ بعصر من دون غيره. الإنسان يخاف من تغييرِ نمط حياته، خاصة إذا كان هذا التغييرُ ينقله إلى طور وجودي بديل، لذلك يسارع إلى الإعلان عن خوفه وتحذيره من كل ما هو جديد. يلازم هذا التحذيرَ على الدوام مديح، غالبًا ما يكون غارقا برسم صورةٍ رومانسيَّة متخيَّلة لكلِ شيء ينتمي إلى الماضي مهما كان، ويشتد هذا المديحُ إن كان الماضي موغلا في القدم. أكثر الناس في مختلف العصور مسكونين بـ «وهم الزمن الجميل» الذي مضى. يرون بشاعةَ الزمن الذي يعيشون فيه، ويصفونه على الدوام بأنه أسوأ الأزمنة، ويتوهمون أن الناسَ الذين سبقوهم محظوظون بوصفهم عاشوا زمنا جميلا، كان العيش فيه سهلا، وحياة الإنسان سعيدة، خلافا لعيشهم الشاق وحياتهم الشقيَّة في زمانهم الراهن.
لا يعلمون أنَّ العيشَ دائمًا كان صعبًا، ممارسةُ الإنسان للمهن كانت قاسية، لأنّه يستعمل الآلات اليدويَّة في الزراعة والحرف اليدويَّة والصناعات المتنوّعة قبل اختراع الماكنة البخاريَّة. أحيانًا يأخذ الموقفُ من تبجيل كلِّ شيء في الماضي طابعًا دينيًا، فيصدر تحريمٌ باستعمال التكنولوجيات الجديدة، كما صدر في وقتٍ مبكر في السلطنة العثمانيّة تحريمٌ بطباعة القرآن الكريم في المطبعة(1)، وتوالى التحريمُ لاستعمال الراديو والتلفزيون والفيديو وغير ذلك من بعض الفقهاء في أزمنة لاحقة. في كلِّ هذه الحالات تتوالد صورٌ فاتنة متخيَّلة للماضي، ويقع تحت تأثيرِ هذا النوع من الصور المفتعلة كثيرٌ من الناس، الذين لا يعرفون ما تقدّمه العلومُ والمعارفُ والتكنولوجيا لتيسيرِ حياة الإنسان، وتحسينِ ظروفه المعيشيّة وأحواله الحياتيّة المتنوعة. التكنولوجيا الجديدة تنتج سلسلةَ مشكلات على شاكلتها، عندما تقضي على نمطِ إنتاج سابق تحدث أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وقيميّة وثقافيّة ونفسيّة متنوّعة، كما حدث بتصفية الحرف اليدويّة بالتدريج بعد اختراع الآلة البخاريّة.
أرى من الضروري إعادةَ النظر بتعميم توصيف عصر «التفاهة»(2) للواقع الراهن. الغريبُ أن مصطلحَ «التفاهة» صار لافتةً تُلصق على ما يسود حياةَ الإنسان اليوم، يستعملها كثيرون بأسلوب مبتذل. إذا كان هذا راهنَ وجود الإنسان في العالم، ولكلِّ عصر نمطُ وجودٍ تنكشف فيه كينونةُ الإنسان ويتحقّق نمط وجوده الخاص فيه، فكيف نظهر أنّه عصرُ تفاهة، ونضمر الحنينَ لعصور ذهبيَّة متخيَّلة. كان يقال: «دوام الحال من المُحال»، وأضيف إلى ذلك: «عودة الحال إلى الماضي مُحال». لا يتمكن الإنسانُ من استئناف ماضيه مهما امتلك من إمكانات ووسائل، كلّما حاول العودةَ قبض عليه الواقعُ الذي يعيش فيه وحبسه وعطّله عن إدراك الأمس واستئنافه كما هو، ومهما فعل سينهك حياتَه ويضيّع مستقبلَه من دون أن يستأنف الأمس.
توصيف عصرنا بـ «التفاهة» يُحيل إلى أن العصورَ الماضية كانت ذهبيَّة، وكأن لا موضع فيها للبؤس والشقاء. يتجاهل من يتحدث عن تسيّد «التفاهة» وتغلبها على كلِّ شيء اليوم ذلك البؤسَ والشقاء عندما جرى اجتثاتُ وإبادةُ حضارات الأمريكتين، بعد اكتشاف كولمبس للعالم الجديد سنة 1492، وما تلاه في القرون التالية من تغوّلِ ظاهرة الاستعمار المتوحّشة، واسترقاقِ شعوب أستراليا وأفريقيا وآسيا ونهبِ ثرواتها، ومآسي الحربَين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين، وسقوطِ عشرات ملايين الضحايا الأبرياء، وتدميرِ المدن وإنهاكِ كثيرٍ منها، وجريمةِ الكيان الصهيوني باغتصاب فلسطين، وما جرى ويجري من قتل وتشريد أهلها حتى اليوم.
أتحدث عن التخويفِ المبالغ فيه من استعمال وسائل الاتصال والتطبيقات الجديدة في الإنترنت، والتشديدِ على أنّها شرٌّ مطلق. ولا أريد الغوصَ بعيدًا في ضوء الموقف الفلسفي للفيلسوف الشهير هيدغر بخصوص ميتافيزيقا التكنولوجيا، وما يختبئ فيها من قدرةٍ مهولة على تغيير منظومات المعتقدات والقيم ورؤى العالم والأفكار.
من مكاسب عصر الإنترنت وشيوع وسائل التواصل القضاءُ على «طبقيَّة التعليم». كلُّ شيء يريد الإنسانُ تعلّمَه اليوم متاحٌ للجميع بمختلف المراحل العمريَّة، يعلّمه أمهرُ المعلمين بأحدث الوسائل مجانًا. قبل هذا العصر كان أبناءُ الفقراء أمثالي، يوم كنتُ تلميذًا، عاجزين عن تعلّم اللغات والمهارات المتنوّعة. أتألم كلّما تذكرت أمنيةً ضائعة في نفسي، بعد تخرجي في الثانويّة قبل نصف قرن عندما كنتُ طالبًا ببغداد، شعرتُ بحاجة ماسَّة لتعلّمِ اللغة الإنجليزية وإتقانِها. سألتُ زملائي الطلاب، أخبروني بأن مَن يريد إتقانَ الإنجليزية عليه الالتحاقُ بدورات مكثفة في «المعهد البريطاني» في منطقة الوزيريَّة ببغداد، سألتُ عن أجور كلِّ دورةٍ فعلمتُ بضرورةِ دفع مبلغ باهض، لا أستطيع تأمينَه تلك الأيام. لم تتكرّر مثلُ هذه الفرصة، فضاعت هذه الأمنيةُ وأُضيفت إلى ما ضاع من أمنياتي. بعد سنوات طويلة كان باستطاعتي دفعُ المبلغ وقت توفر المال، لكن لم تعد الرغبةُ ممكنةَ التنفيذ، بعد أن ساقتني الأقدارُ بعيدًا عن مثل هذه الأحلام الجميلة.
سألتُ ولدي علي قبل أيام بعد مناقشته الماجستير، ماذا تفعل هذه المدة؟ فقال: انخرطتُ في معهد أونلاين لتعلّم أجود طريقةٍ لتحميص القهوة وتحضيرها. قلتُ له: أعرف أنّك خبيرٌ في هذه الصنعة، بعد دوراتٍ متعدّدة على أيدي خبراء محترفين، وممارسةِ المهنة منذ سنوات عمليًا، فلماذا تفعل ذلك؟ قال: أدرس في معهد استرالي متقدّم لتعليم تحضير أجود أنواع القهوة وأغلاها ثمنًا، يتولى التعليمُ فيه أكاديميون متخصصون في هذه الصنعة. هذا المعهد من أفضل المؤسسات التعليميَّة في هذا المضمار، يدرس فيه أونلاين عشرات الآلاف من قارات عديدة، شهادته معتبرة في كل أنحاء العالم، وأجور التعليم لديهم ليست فاحشة. فوجئت بوجود مثل هذا المعهد، فبادرتُ بسؤال: ومَن يريد تعلّمَ صنعة أخرى هل هناك مثل هذا المعهد؟، فقال: كلُّ مَن يرغب بإتقان مهنة مهما كانت، يستطيع التعلّمَ وهو في بيته عبر الإنترنت، وكثيرًا ما يكون التعليمُ مجانًا. أردفتُ بسؤال إنكاري: هل تحضيرُ القهوة يتطلب وجودَ مهارات وتأهيلَ متخصّص لا يتقنه إلا مَن يتعلّم في مثل هذه المؤسسة الأكاديمية المختصة؟، فأجاب: حجم التداول في سوق القهوة عشرات المليارات، الجيل الجديد مسحور بالقهوة، لم يعد أكثرُهم يشرب الشاي، القهوة شرابُه المفضل في كلِّ الأوقات. عندما رجعتُ إلى محرّك البحث لأتحقّق من حجم التداول، قرأتُ تصريحًا لخبيرٍ بسوق القهوة، جاء فيه: «أكد علي الإبراهيم، المؤسس والمدير التنفيذي لتطبيق COFE، وهو عبارة عن سوق إلكترونية للقهوة، أن سوق القهوة العالمية التي يبلغ حجمها اليوم 150 مليار دولار، ستنمو بعشر مرات خلال السنوات الخمس المقبلة، على الرغم من مشكلة الجفاف، وتقطّع سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار البُن مؤخراً”(3).
من المكاسب الأخرى لعصرِ الإنترنت وشيوعِ وسائل التواصل الحدُّ من تضخمِ «طبقيَّة العلاقات الاجتماعيَّة» وأرستقراطيتها الممقوتة، وعيشِ الطبقة العليا في حصون منيعة بعيدًا عن المجتمع. وسائل التواصل كسرت حصونَ الأسوار المغلقة، وفكّكت كثيرًا من شكليات البروتوكولات الزائفة، وحاصرت الشخصياتِ السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في قصورهم وأبراجهم العاجيَّة، واضطرتهم للخروج والعودة لحياة المجتمع والتواصل مع شؤون الناس وهمومهم.
الهوامش:
1 - كتب الفقيه المغربي محمد بن إبراهيم السباعي المتوفى سنة 1332هـ: «رسالة في الترغيب في المؤلفات الخطية، والتحذير من الكتب المطبوعة، وبيان أنها سبب في تقليل الهمم وهدم حفظ العلم ونسيانه».
2 - صدر كتاب: “نظام التفاهة” للمفكر الكندي آلان دونو، ترجمة وتعليق: مشاعل عبد العزيز الهاجري، 2022، دار سؤال.
3 - العربية.نت، بتاريخ 3 ديسمبر 2023.