محمود عجمي: ما ورائيات الوجوه

ثقافة 2023/12/14
...

  زهير الجبوري 


تتضح تجربة التشكيليّ العراقيّ الدكتور محمود عجمي في معرضه الثامن الذي أقامه مؤخرا في جمعية التشكيليين العراقيين فرع بابل، على جدليَّة واضحة وحساسة في طرح موضوعاته التي عرف فيها، والتي استلها من الأثر المثيولوجي لثيمات علاماتيّة لـ (رأس الثور.. وجسد المرأة ووجهها.. ووجوه أخرى)، لعل هذه البصمة التي عُرف فيها أخذت على عاتقه إبراز هويته الفنيَّة للأسلوب الفنيّ/ التشكيليّ، غير أنَّ الأعمال التي عرضت في معرضه هذا أخذت منحى أدائياً مغايراً بعض الشيء، لانَّ الشكل المضموني لكل عمل انطوى على أبعاد جماليّة خاصة، منها على سبيل التحليل ما تقدمه تكوينية العمل في كسر إيقاع الشكل وإظهار شكل آخر مركب ملفت للنظر. وهذا يأتي من عمق التفكير بالأشياء وما تحتويه من طاقة جمالية خفيّة، ولعلني أمسك بهذا الجانب بأنّه اشتغال ما بعد حداثي لبنية جماليّة حديثة، ومنها ما نمسكه في نوع المادة وطريقة استخدامها، كمادة العظام لبعض الحيوانات، ومادة كرب النخل وجذع النخل أيضا ومادة الفخار وغيرها، ومنها ما نلمسه في تقنية النحت المركبة للوجوه، حيث تقترب كل المواد المستخدمة لتعطي شكلا مهاريا من طريقة الفنان (عجمي) مهما كانت الأبعاد ومهما انطوت عليه وحدة الموضوع.

أخذ معرض (ما ورائيات الوجوه) أيضا لوحات رسمت بمادة (باستيل طباشيري)، أعطت ذات الدلالة الموضوعيّة للأشكال المطروحة (انشائيا)، ولا أدري إن وافقني الرأي أحد بأن التناظر في الوجه الآدمي مع الوجه الآخر (الحيواني) هو لعبة فنيّة أدائيّة، أم خلق وجودي تشكيلي من مهارة الفنان؟ بخاصة عندما تكون بعض الأشياء مرافقة لمحنة الإنسان في مرحلة معينة (محنة كورونا) لنشاهد إحدى اللوحات المعروضة لرأس ثور يلبس كمامة، هذا الخلق الشكليّ الجماليّ يطرق عمق التفكير بالمحسوسات التي يشعر بها الفنان ذاته، فثمة أشكال إيروسية مركبة لرأس ثور بشكل مجرد مع ساقي انثى، ما تشير إلى أّن الوجوه ببعدها السيميائي تظهر بأشكال تعبيرية غاية الدقة وغاية الأداء ، لذا بقي الفنان يجرب في نسقية الأشياء بطريقة حساسة جدا.

الملفت للنظر أنَّ جلّ ما يقدمه الدكتور محمود عجمي هو إعادة قراءة الأشكال الأسطورية الرافدينية بمعاصرة الأداء النحتي للثيمات المجسدة (أولا) وطريقة الرسم بالألوان كافة (ثانيا)، ولعل هذا الجانب أعطاه فسحة واسعة في أخذ جميع الأشياء وتركيبها بالأسلوب الذي يريده، وما يؤكد ذلك عبارته التي كتبها في ظهر (فوادر المعرض) حين قال (هي سكنات في ما ورائيات وجوه عصفت بذاكرتي السابحة في فضاءات عميقة عمق الذاكرة)، لكنّي استدرك ما كتبه الفنان وأقول (هي حفريات معرفيّة مبتكرة جاءت بقصديّة فنيّة عالية)، بمعنى ثمّة إضافة جماليَّة معاصرة انسرحت من تكوين تشكيليّ متداخل بعد أن فتح شفرات الأشكال الرافدينية المستعارة.

لغة الطين والفخار والحجارة والخشب والألوان، هي لعبة فنية ينشؤها الفنان بأداته واساليبه المعروفة، هي بديل عن بحث مسرود كبحث اكاديمي أو بحث ثقافي، خاصة بأنّ الدكتور محمود عجمي استاذ أكاديمي واشتغل في مضمار العمل المنهجي، غير أن قراءاته المتنوعة وجذوره البيئية وعشقه للفن الرافديني جعل منه أكثر حماسة في حفريات الأثر الرافديني وما يحمله من أرث عميق وفن دقيق لموضوعات كثيرة وشاملة تأخذ على عاتقها ثقافات المجتمع القديم وسياساته المتعاقبة، إلا أنّ فناننا نظر لها نظرة مضيئة في جعل هذه الأشكال لها جماليتها الخاصة الآن في ظل التقنيات الفنية التي طرحها وشاهدناها منذ سنوات، كما أدرك تماما استمراره في المواصلة وطرح تجربة جديدة لاحقا وهذا ديدنه الذي عُرف عليه والذي جعل منه فنانا يخطو في ممارسة ما هو مغايرعن تجاربه 

السابقة.