أهوارُ الجبايش.. نهاية عالمٍ أم بداية قصَّة؟

ثقافة 2023/12/17
...

  ابتهال بليبل

سيطرت على العقل البشري في الآونة الأخيرة - عند المختصين والقرّاء المهتمين عادة - فكرة «نهاية العالم»، التي يبدو أنها نشأت مع الأساطير القديمة والأديان والمعتقدات المؤسسة، ولكن كل عقل بحسب توجهاته ومديات الحيز الفكري الذي ينتمي له، وهي على الرغم من اختلافها -أي الفكرة- تصبّ في مجملها بحتمية  شرسة عنيفة تتصور نهاية كارثية لكوكب الأرض.. وترتبط بسلسلة طويلة من النظريات والاحتمالات العلمية، ولكنها في النتيجة ستكون بسبب تداعيات مأزومة يقوم بها البشر قد تجرّ لكوارث مناخية تؤدي لنهاية العالم.

ويجادل بعض العلماء بأن معدلات الانقراض البيولوجي تتجاوز الآن مستوياتها التأريخية بكثير..  وقد نصل إلى نقطة «اللا عودة».. إن الكتابة العلميِّة المتمثّلة بشكلٍ خاصٍ بالدراسات والنظريات، والأدبيَّة المتمثّلة  بالشعر والقصص والروايات وربما حتى الفن التشكيلي، لديها الكثير لتقوله في ما يتعلق بأوجه التشابه بين الواقع والخيال، على الرغم من أن الخيال يوفر فرصًا لاستكشاف هذا الترابط أيضاً..  ففي نهاية المطاف، إذا كان للخيال القدرة على إظهار التفرد الداخلي والخاص، فلماذا لا نصور الحياة الطبيعية على سطح الأرض، وهي تمتلك مثل هذه التفرد الداخلي؟.
وهنا يجب أن اعترف أن ما دعاني لكتابة هذا المقال هو سيطرة المكان على المكين، حيث عشت في الأهوار نهارًا كاملا، ورأيت كلَّ شيءٍ فيها عن قرب، تلك التي دخلت الخيال بداية من الميثولوجيا في الأساطير عبر آلاف السنين. فممراتها المائيَّة المزدحمة بالقصب والبردي، التي تحوم فوقه الطيور، كانت مثل رسائلَ ووعودٍ  تخاطب عقلًا  يتأملها.
قبلها كنت أعرف الأهوار من الكتب والصور والبرامج الوثائقية.. وهنا أؤكد أن بعض الكتب تضع القارئ بعمقٍ وثباتٍ داخل  المكان. ولكنها ليست مثل التجربة الحية.
 فهذه الأمكنة ترسل رسائلَ ووعودًا لقرّائها بأن البشر، بعيدٌ عن الوقوف خارج ما يسمى «الطبيعة»، هم آلهة أيضاً، بعضها يملؤه الخير والعطاء وغيره يفيض الشرُ بوجوده.
أنا الآن في «أهوار الجبايش» لست رحّالة لأدوّن أدبًا، ولا مستكشفةً أدقق في المياه والطين.. ولكن شاعرة، مجرّد شاعرة تتأمل بالاعتماد على تقارير الأزمات البيئية والأرقام، التي تعرف بعضها على ما كان يمكن أن يكون عليه الحال عندما ندخل في أدب المناخ، أو الخيال المناخي، فضلا عن  الكشف عن قصتي مع «أهوار الجبايش» من زاويةٍ غير مرئية حتى الآن.  
هذه الأهوار التي كانت بمثابة جنةٍ أرضيَّةٍ، سحرت الشعراء والكتاب في مراحل مختلفة.. فمياهها، بالنسبة لهم، موطنٌ لخيال لا يمكن تصوره أو فهمه، وأعواد البردي البنية الكثيفة، والقوارب التي تنافس محطات الانطلاق، كلما توقفنا في مدنٍ مزدحمةٍ، ونحن نميل برؤوسنا ربما شوقاً أو مللاً نحو مساحاتٍ شاسعة، حيث يتطلع العشّاق إلى بعضهم البعض من بين القصب، أو ينادون بأصواتٍ غير مسموعة تحت سماء الطيور الجريحة.
كانت أحداث الهور الخصبة، وخلال عقودٍ طويلةٍ مثلنا مفطومة على أغنياتِ داخل حسن ومهدي الزايري، ومشوشة عن «الفراق والعزلة والعناق»، قصص تمزج بين خرافات الهرب وحقائق العطش والجفاف.. حتى أبي الذي لم يحدّثنا يوما عن حكايا البيوت العائمة فوق المياه، استحضر ذكرياتٍ شبيهةً ومبهمةً، بينما كان يصف اللحظاتِ التي قضاها على متن قاربٍ في مسطحٍ مائي في الصين، وهو يحتسي الشاي، ويتحدث مع صديقه عن وديان الظلام وضرب المجاديف.
يقال إن مياه الأهوار خرساء، ساكنةٌ جداً وما كنت هناك من قبل لأشهد ذلك.. حتى حدث ذلك صدفة.. قصة صمت المياه مريبة.. لا تشبه قصص الخيال التي سمعتها من قبل.. يقول حسين البرغوثي “راقب الماء كي تفهم شيئاً لم يفهمه أحدٌ حتى الآن يدعى: التغير.. راقب الماء لتفهم الجنون” – يبدو أنه لم يغب عن ذهن البرغوثي – إن الدخول لأعماق الهور بقاربٍ بدائي يعني لبغداديّةٍ مثلي مغامرة خطرة.. إذ ينتابك القلق من أيَّ حركة أو التفاتة، أو تمايل تصدره خشية انقلابه وسط المياه، ولكن هو الإصرّار على اصطيادِ أو اقتناصِ شيءٍ من هذا الجنون المخفي.
ولما كنت يقظةً ومنتبهةً لظننت أنها – أقصد المياه- تحاول إيهامنا بسكونها، حتى تحين العاصفة في فناء مائي ينزف جميع أغنياته وأبطاله وكل انعكاسات الوجوه، التي ابُتلِعت في جوفه وما استطاع لها ردماً وظلّت عالقة في أعماقه..
إنّها المرة الثانية لي، وأنا أحاول فيها أن أدسّ أصابعي في المياه الباردة مع بضعة “انفلاتات” أخرى  ومحاولات أدخرها ليومٍ مشابه.. والمرة الأولى التي أصل فيها لحافات التأمل، وما يحمله من عزاء، لست هنا لتجميع بقايا ما خلّفته “الانتظارات” من وجوهٍ ضبابيَّةٍ ملطّخةٍ برطوبة الآخرين. وجوه غاصت في الأفق ولم تعد.
يقول مثل روسي “عندما نقع في الماء لا يخيفنا الشتاء”.. يحدث أحياناً أن نقترف الخداع.. خديعة الكون ونحاول إيهامه، أننا نستغرق في تلافي أجسادنا المنهكة من برودته.. نختلس الوقت.. ماذا يفعل العالم عندما لا نرضى عنه؟.. لا شيء سوى أنه يدّعي السكون كمياه الأهوار. بنطالي كان رافضاً لخشب القارب.. حاول جاهداً أن يحتج حتى طعنه وفتح جرحاً في ساقي.. لكن الصمت يقترب وهو يصرخ بشماته على وجهك الكئيب.. ما أبشع الكآبة في الصباح وسط المياه.. تظهر خساراتك.. أحزانك التي يخفيها الليل.. الأهوار فارغة من الصيادين حتى التخمة.. تلوك أعواد البردي، وهي تبرقش  ثيابك بزهورها الهشة في ترحيب غريب.. فتبتسم.
هكذا يبدو مشهد المياه.. راكدة تعكس المناظر الطبيعية المحيطة على سطحها الذي يشبه مرايا لا تعكس سوى صمت ثقيل.. في بعض الأحيان، يأتي صوت محرك القارب ليلعب مع المياه مكوناً تموجات تخلق وجوهاً وأحداثا، وبمجرد أن يغادر تعود المياه لاستقرارها مرة أخرى فتبدو في حالة سكون عاكسة كل شيء كما كانت قبل لحظة. يذكرنا محمود درويش بأهمية الصوت وهو يقول: “صوت الماء مرايا لعروق الأرض الحيّة. صوت الماء هو الحرية.. صوت الماء هو الإنسانية.
بعدّ أعوامٍ طويلةٍ شاهدت الكثير من الغضب والألم عن حال الهور، كنت أعلم أنه كان عليّ أن أزورها قبل ذلك، حيث كان الكثيرون يحرّضون في الاتجاه المعاكس، نحو تقرير المصير، في الوقت نفسه. عندما ركبت قاربًا خشبيًا رمادي اللون، من ذلك النوع الذي لا يوجد إلاّ في هذه المنطقة، كنت فوق وجود مصنوع من الورق لا يمكن التدوين عليه أو تمزيقه.. ندرة القوارب في برودة الشتاء، بينما يدور البعض من النفوس التقية، وهم بعيونٍ مغمّضةٍ كأسماكٍ وحيدةٍ في الأعماق.. ظلال لجنة
بعيدة.  
على الجزر اليابسة القديمة المتربة، تتجول كبيراتِ السن في فراغ الاحتمالات باتجاه المياه، بينما الفتياتُ ذوات البشرة الفاتحة والعيون الملونة، يبتسمن ويتألقن تحت شالات حمراء وصفراء وزرقاء.. لقد كان الباعة آنذاك في أكشاكٍ مفتوحةٍ نحو السماء يقلبون أسماكًا صغيرةً في سلالٍ عتيقة.. كنت شاردةً أنظر من خلف نافذةٍ شحيحةٍ ما يمكن أن تكون سلسلةً من لوحاتِ زمنٍ قديمٍ مركونةٍ عند منعطف شارع.
 كان هواء الهور مغايرًا عن الذي كنت أستنشقه في حياتي كلها،  لكنه ربما يشبه هواء وادي مغارة جعيتا شمال بيروت.. كانت الحشائش اليابسة المتراصة طويلةً وكثيرةً جدًا، وكان من الممكن أن أسير عبرها أو أتوغل داخلها.. ولكني تذكرت أنني قرأت عن أساطير «الطنطل وشبح الأهوار وتل حفيظ».  
إن ماضي المنطقة المتنوع والغريب يذكره مزيجًا من الأصوات، منهم حسن كريم عاتي في روايته «الوقوف على ساق واحدة» والروائي السوري حيدر حيدر في رواية «وليمة لأعشاب البحر»، ورواية «مشحوف العم ثيسجر» لعمار الثويني، وغيرهم الكثير.
هذا المنخفض المشمس أعاد لكثير من الفنانين من خلال رسوماتهم إحياء التورية البصرية المبهجة، التي ظلّت واقعيًّا خاملة إلى حدّ كبير خلال أعوام الحروب والصراعات.. لقد أطلقوا أرواحهم في التركيبات والرسومات التي وضعت في المعارض مثل رسالة وطنية، وساهمت هذه الأعمال أيضاً في تزيين معظم جوانب الحياة.
يمكننا العثور في كتبٍ ورواياتٍ وقصصٍ وأشعارٍ ورسوماتٍ على تفاصيل تتمحور حول الأهوار في كل مراحلها التاريخية، تلك التي تلعب دورًا مهمًا في ما يتعلق بالأساطير والمعتقدات أو السياسة والاقتصاد، وهي تدفعنا للإيمان بحاجتنا إلى نداء وتنبيه عالمي، يقول.. انتبهوا للأهوار.
استمرار الوضع الراهن ليس خيارا.. فلقد عززت هذه الأعمال علاقتنا بالبيئة والمكان.. فمن الممكن إن نهاية العالم قد تكون مرهونة في سطر بكتاب عن الأهوار التي تتشبث بالحياة، على الرغم من العطش وقد تكون  بدايته الجديدة مرهونة بالسطر نفسه.