خالد الداحي.. آخِرُ الجواهريّين يَترجّل

ثقافة 2023/12/25
...

  عادل الصويري

1
شغلت موضوعة الموت مساحات كبيرة من قصائد الشعراء القلقين تجاه هذه الحقيقة العميقة، التي حضرت في القصائد صراحةً وقناعاً يعي صاحبه حقيقة زواله، بعيداً عن فكرة الخلود الجلجامشية. وتحدث الفلاسفة والمفكرون حول هذه الحقيقة، ومنهم (الطيب بوعزّة) الذي عَدَّ الموت “مكمن الأسئلة الوجوديّة الحافزة للتفكير، ويقين الكائن البشريّ بفنائه هو ما يدفعه إلى التفكير في ماهية وجوده ومآل تجربته”.وبالقرب من هذا المعنى اشتغل الشعراء على حقيقة غيابهم، ومنهم خالد الداحي الذي ترجّل مؤخراً وهو آخر جواهريّي الكلاسيكيّة العالّية، ومن أوائلِ شيوخِها التحديثيين. وقد حضرت ثيمة الموت في قصائد الداحي، فتارةً تأتي فلسفيّةً مصوَّرةً بمخيال يجعل الموت رقصةَ تبعث حياة عبر ظلال غير واقفة: “وتمطّت فوقَ الجدارِ ظِلالٌ/ كالشياطين مالهُّنَّ وقوفُ/ رقصةٌ تبعثُ الحياةَ مِنَ الموتِ/ لِمَنْ كفَّنَتْ رؤاهُ الكهوفُ”.وتارةً أخرى حضر الموت في حلم الشاعر نفسه، وذلك في قصيدته (شواطئ الغربة) التي أعدها مرثية مبكرة رثى بها الشاعر تجربته الحياتية محتشداً بالمرارات والبكاءات، حتى توحد معها في صمتٍ سرمديٍّ: “كُلُّ الشبابيكِ تشتهي هربي/ وليسَ لي ساعدٌ وَلا عَضدُ/ بكيتُ في الليلِ مِنْ نُحولِ يَدي/ وفي الضُحى لم تكنْ هُناكَ يَدُ/ وكنتُ أدري بأنَّ لي جسداً/ فكيفَ أصحو وليسَ لي جسدُ/ متى تُعيدُ الرياحُ أشرعتي/ فأشتري شاطئاً وَأبتعدُ/ في كُلِّ يومٍ أموتُ في حُلُمي/ هل ماتَ مثلي بِحُلْمِهِ أَحَدُ؟”.
2
لم أكن على بطر أو ترف حين قلتُ في الفقرة السابقة إن الداحي من أوائل شيوخِ  الكلاسيكيةِ العالية تحديثاً على القصيدة. وهذا الوصف قيل في حق عبد الرزاق عبد الواحد؛ لهيمنته الاعلاميّة، وقيل عن غير دراية - أو ربما تملقاً - في حق آخرين لا قيمة لهم سوى الاقتراب من المزاج السلطوي، قبل أن يتدحرج سريعاً إلى جماعة قصيدة الشّعر التسعينية الخارجة أصلاً من معطف عبد الواحد. ولأن خالد الداحي من الشعراء الذين لم يهتموا كثيراً بمسألة الترويج لمنجزهم، وكان زاهداً بكلِّ لهث ويلهث خلفه الآخرون؛ فقد تلاشت تقريباً حقيقة بصمته التجديدية على القصيدة، فلم يكتفِ بتحرير الجملة الشعريّة الموزونة من القيد الوزني، وانسيابها داخل إيقاعها؛ بل اشتغل على كل ممكنات التجديد الذي يبعث على البهجة والدهشة معاً بعيداً عن التلاعب اللفظي المُلفّق.
ويمكن الإشارة إلى ملامح اشتغالاته على اليوميات الشاعرة، التي بثَّ روح الشعر الخالص في تفاصيلها، من دون الإسراف في اللغة الاستعاريّة والبلاغيّة، بل كان يتخذ من لغته اليومية موقفاً من الحياة وإشكالياتها الفكرية، فضلاً عن حضور الفانتازيا الهائلة في بعض قصائده المقطعية الصغيرة، ومنها هذا المقطع: “وَعَلَّقْتُ المرايا خَلْفَ رأسي/ فكيفَ إذنْ بَدا وجهي علَيْها؟/ ألي وَجْهانِ أم أنَّ المرايا/ تَخَطَّتْ ما لَدَيَّ بِما لَدَيْها؟”.
ومنها ما يُضْمِر السُخرية من بعض المفاهيم المتعرّية من حقيقتِها، وأيضاً بشكل مقطعي يقول قصديته بكثافة من دون إسهاب، كما في مقطع من بيت واحد بعنوان (ديموقراطية):”أتيتُكَ أسْتَفْتي وذا خنجري معي/ فإنْ حدْتَ في فتواكَ فالحَلُّ خِنجرُ”.
3
شعريّة خالد الداحي، تهيمن عليها سمة الابتعاد بلغة النص التقليديّ الشكل بعيداً عن أجواء الخطابيّة الصاخبة. هو يطير بلغته إلى كل مساحة تنتج دلالة ورؤية فهو شاعر رؤيوي بامتياز. والرؤية عنده تتيح له جمع المتناقضات مثل خرز منتظمة في خيط مجازي استعاري، فضلاً عن حضور المناخات الفلسفية في قصيدته. أما الصورة الشعرية لديه فهي من المبتكر غير المستهلك. يكتبها لتكون مشروع حياة وتأمل، أكثر من كونها جزءاً من موضوع مناسباتي عابر، فالصورة عنده ماءٌ يُرَشُّ على عشب اللغة؛ ليبقى مخضرّاً في النص على صعيد الفكرة والصياغة والدلالة. وهذا المنحى يتوهج كثيراً في قصيدته (تداعيات امرأة وثنية)، والتي تقمَّصَ فيها دور امرأةٍ لا دينيّة مغرورة بجمالها متحديَّةً حبيباً لا حول له ولا قوة أمام جبروت الحُسْن والأنوثة. والجميل ومع عمودية القصيدة أنه تمرّد على خاصيّة التصريع التي تبتدىءُ بها قصائد الشطرين. هذا التمرد جاء منسجماً مع روح فكرة التحدي التي جاء بها موضوع القصيدة، ومنسجماً أيضاً مع شخصية المرأة التي لبس الداحي قناعها بشكل رائع، مفتتحاً القصيدة داخلاً في الموضوع من غير مهاد: “وحدي أعيدُ اشتعالي حين تُطْفِئُني/ كي لا تظلَّ وحيداً في اشْتِعالاتِكْ”.
ثمَّ ينساب التحدّي في بقية أبيات القصيدة التي شحنها الداحي بمفردات ذات دلالات من ديانات مختلفة مثل: (توراة/ صليب/ آيات): “يا أيُّها الخارجيُّ الرَبُّ من حجرٍ/ فاسْكُبْ على قَدَمَيْهِ حِبْرَ تَوْراتِكْ/ أنا إلاهَتُكَ الكُبْرى ستسجدُ لي/ وإنْ صَبَأْتَ وتنسى كُلَّ لاءاتِكَ/ كتوْأَمَيْنِ اشْتَرَكْنا في ملامِحِنا/ فكيفَ تعرضُ عن وجهي بِمرآتِكْ/ غداً يُقاضيكَ ماضٍ بِعْتَ هيبتَهُ/ لِمُدّعينَ تَباروا في مقاضاتِكْ/ هم يصنعونَ صليباً سوفَ تحملهُ/ وأنتَ تقرأُ كالمسحورِ آياتِكْ”.
ولو التفتْنا إلى قافيةْ القصيدة، وجدنا أن التسكين على كاف المخاطب جاء لضرورة نفسية تؤكد تحدي صاحبة الخطاب لحبيبها بأنَّهُ من دونِها سينتهي إلى السكون والملل، بلا فاعلية أو حركة حُبٍّ واشتعال.
أخيراً يمكن القول إنَّ الشاعر خالد الداحي يشبه ما كان عليه الشاعر الراحل عبد الأمير الحصيري من صوتٍ شعريٍّ خاص، وصمتٍ مكابرٍ خاص كذلك.