بين السياب ونيرودا.. بويب الأرجوان

ثقافة 2023/12/25
...

  وليد خالد الزيدي  

الشاعر المجدد والمعلم المعاقب والمترجم المتأثر تلك صفات تنطبق على الراحل بدر شاكر السياب الذي كان يتمنى مغادرة الحياة والركون إلى وحشة المقابر لعله يحظى بشيء من الهدوء وفسحة من الراحة والخروج من ظلامة العيش وقساوة الغربة التي سببتها له الأيام وبيئته منذ صغره وفقدان الأهل.
فالأم الراحلة والأب المفقود التائه بين عوالم النساء والجد الباحث عن الثراء تلك ظروف زرعت في طريقه عواسج جارحة لم تبرح مكانها بقيت حتى رحيله تعيق مقاومته ضعف الحال وعلة الجسد ومع ذلك لم ينكر السياب جمال بيئته وعبق قريته جيكور في قضاء أبي الخصيب المولود فيها عام 1926، والتي لم يأنس سواها وأحبها أكثرمن بغداد وبيروت ولندن.
السياب من أشهر روّاد تجديد الشعر العربي وأوائل مؤسسي مدرسة الشعر الحرة بمشاركة أشهر الشعراء أمثال صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ولميعة عباس عمارة، وتميزت قصائده بالتدفق الشعري والخروج عن الشكل التقليدي ومغادرة عروض الخليلي للقصيدة وتميزت بلمحات حزن صاغتها ظروف حياته وصعوبتها لا سيّما مرضه الذي أنهى حياته يوم الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964.  
أكمل دراسته الثانوية في البصرة ودخل دار المعلمين العالية في بغداد عام 1943، ودرس أدب اللغة العربيّة لعامين وفي العام الثالث انتقل إلى قسم أدب اللغة الانجليزية وتخرّج عام 1949، وعمل بصفة مدرس في الرمادي لكنه عوقب ونزل إلى درجة معلم بسبب  توجهاته اليسارية إبان العهد الملكي.
بيئة السياب ألهمته الشعور بالحنين لها وانعكست على مخيلته وجاد في شعره ونهر بويب الصغير الذي كان السياب يحبه ويطيل الجلوس على ضفافه يمزج الطين بالماء كأنه يذوب فيه مشاعر الحنين.. «الماء في الجرار، والغروب في الشجر وتنضج الجرار أجراسا من المطر/ بلورها يذوب في أنين/ بويب .. يا بويب/ فيدلهم في دمي حنين/ إليك يا بويب/ يا نهري الحزين كالمطر».
ذكر عمه عبد المجيد السياب ذات يوم تأثره بنهر بويب قائلاً، إن: سر اهتمام ابن اخي بالنهر جاء من قرائتي قصيدة لشاعر تشيلي العالمي بابلو نيرودا الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1971، الذي ذكر فيها نهرالموت (الارجوان) وكان السياب قريبا مني فتأثر بها هو الآخر، ولم يكن هذا فقط، بل أنه ترجم لهذا الشاعر قصيدة (الموت وحده) فضلا عن تأثره بشعراء عالميين أمثال البريطاني وليم شكسبير وآخرين، وكان قد برز في مسقط رأس السياب شعراء اخرون منهم سعدي يوسف.   لم تكن ترجمة بدر شاكر لقصيدة (الموت وحده) للشاعر الثائر (نيرودا) الذي توفى عام 1973، آتية من فراغ، بل أنه تاثره بحياته وطبيعة تعاطيه مع هموم وطنه تشيلي والثورات الشعبيّة التي زامنت المد الشيوعي فيها وانتمى إليه وأثر في حياته وحالة البؤس التي عاشها وتفاعل معها حتى في شعره فرأه السياب نسخة أخرى منه.  ذكر نيرودا في (الموت وحده) نهر الارجوان قائلا: «نعوشاً في نهر الموت العمودي مصعدات/ في النهر الأرجوان/ مصعدات، بأشرعة يملؤها صوت الموت/ يملؤها صوت الموت الصموت/ والموت يصل إلى الشاطئ المشؤوم/ كحذاءٍ دون قدم/ كرداءٍ دون لابسٍ يَرتديه/ يصل يضرب بخاتم لا فصَّ له ولا إصبع فيه».