حاتم حسين
حاولت إخفاء شعوري، وأنا أكتوي، وأستعر رغم إنّي مزّقت أكثر من مرّة ما أُريد أن أنشره، وقلت في نفسي، ما جدوى حبّي لها، وهي لا تعلم ما يجول ويعيش في صدري، كانت صدمة ارتعدت منها كلُّ جوارحي ولم أقدر أن أتجاوزها بالصمت، والسكوت عن سلوك إنسانة وضعتُها في المقصورة الأماميّة التّي حلمتُ بها، ورغبت بها، لكن حبيبتي رقصت على جراحي، وعلى خوفي، وعلى غيرة الحُبّ التي أصابتني كالمجنون.
قُلت لنفسي: لابأس،
فلتذهب حبيبتي إلى المكان الذي تُحبّه، وتُخلّت عنّي لأجله، ولأذهب أنا أيضا إلى حانة الخمر رغم أنّها أيّام رمضان، والشرطة تحكم عيونها على أماكن البارات ومحلات بيع الخمر، ولكن لا عليك أن تتذوقه، فإنّك قبل لحظاتٍ تذوّقت، وتجرّعت السَمّ من حبِيبتك!
جلستُ وحيدا في بارٍ مُنعزل عن عيون الشرطة، وناديتُ على الكارسون.
-أُريد خمرآٓ؟
تَفحّص الكارسون وجهي مُستِفهماً، وهو يقول لي: أيُّ نوعٍ من الخمر تريد؟
-عرق، بيرة، ويسكي، غنطوس، ما الذي تريده؟
قلتُ له: (بكيفك)
أبتسم، وقال مَنْ الأفضل لك أن تُجرب البيرة، يبدو أنّك جديد على احتساء الخمر، وفي هذا المساء الرمضاني، حاول أن تُجرّب البيرة، بعد أن قدّم لي شيئا من السلطة، والليمون، والفستق.
فتحت القنينة المعدنية المُثلّجة، وأنا أرى الرغّوة التي أشبه ما تكون برغوة «الببسي كولا»، وهي تفور لألطعها بلِساني، تلك الرغوة المتدفقة من فوهة القنينة التي تَجْرّعتَها مثلما تجرّعت موقِف حبيبتي التي تخلّت عنّي. رائحة حمضيةٌ تملأ المكان هبّت في أنفي، لطالما نبّهتني أمُّي، ونهرتّني من الاقتراب منها، وشَرْبِها وعدم تعاطيها مع أصدقاء السوء، لكنّي الآن وحيدٌ يا أمّي بلا أصدقاء سوء، صائماً أفطر على الخمر، تعالي، وشاهدي ولدك الضائع يا أمي؟
لم يكن ثمة أحدٌ في البار، في مساء رمضانيٌ، وأنا ألطع رغوة البيرة المرّة المتصاعدة منها، تجرّعتها على مضض، والنادل يُراقبني بعيونه التي لم تخطأ بأني أزور هذا المكان لأوّل مرة، فأنا حديث عهدٍ بهذه النشوة، استجمعت شجاعتي لأرتشف جرعة أخرى
لابأس بها، أنزلتها إلى معدتي الخاوية التي سرعان ما أحسست بتِلك اللذّة التي رأيتُ فيه عيون الكوافير سامدة تتطلع إلى جمال وشعر حبيبتي، فهاج عقلي من مرارة المشهد الذي ظل ساكنا في نفسي وقلبي، ومِن مرارة البيرة المرّة.
نسيتُ حزني، وأنا أقبض عليها بكلتا يديّ، وأشرب القنينة الثانية، وأعصرها بين أصابعي خاسفآٓ لمعدنها، التي جعلتني أطير نحوها، لا أدري لحظة صحو وإفاقة ظهرت أمام عينيّ أمّي فجأة؟!
لم تنبس بكلمة، لكنّها هزّت برأسها بأسف على ولدها الذي ضلّ الطريق في أقدس شهور الله، كنّا نجّلسُ على المائدة ولا نفطر إلّا أن نبتهل إلى الله أن يحفظنا ويسترنا، مرّت لحظاتٌ، وأنا مشدود لصورة أمّي التي بدأت، وكأنّي أحدثها بصوت عالٍ، فجأة دخلت مجموعة من الشباب، ودعوني للاستيقاظ. كنت منتشيّا سكرانا. ولا أتذكر كيف أنّي تقيأتُ كلَّ الذي شربته، وتناولته، هزّ النادل رأسه، قائلاً: (آني كلت وجهه مو مال شرب)..
هكذا استأجروا لي سيارة «تكسي» لتنطلق بي نحو البيت، كانت سكرة مشوبة بالقلق من جراء احتدام الحبِّ الذي دفعني أن أقسو على أرق فتاة أحبّها قلبي.
انطلقت بي السيارة، وسألني السائق: أين تريد أن أُوصلك؟
فأخبرته أرجوك أن ترميني في النهر، أخرجت من جيبي كلَّ ما أملك من النقود، ودفعتها للسائق الذي اغتبط بالمبلغ، وعلم أنّي سكران على الآخر.
أنزلني، وأجلسني قرب النهر القريب من قريتنا
وقال لي: هذا هو النهر، إذا كنت تريد أن تنتحر فتفضل.
تركني ورحل، فبقيت في مكاني نائماً حتّى استيقظت على نباح الكلاب السائبة.