الوميض

ثقافة 2023/12/26
...

  تماضر كريم


في الليل، تحدّق بي العيون، من أماكن شتى، أوشك أن أخاف، وأنا الذي قتلتُ في إحدى جولات الحروب عدداً لا يُحصى من المحاربين.

كيف لرجلٍ دخل ثلاث معارك كبرى أن يتسلل لقلبه الخوف، وممن؟! من العتمة، وعيون متلصصة مختبئة، لا يُعرف لها جنس أو هوية؟ حتى إنها قد تكون أعين الذئاب أو الكلاب، أو بنات آوى، أو خنازير بريّة! أو قد تعود لهاربين من الزنازين وحرّاسها العتاة،

من يدري ماذا قد تخبئ العتمة، ويستر الظلام، من قصص وحكايات، جرائم، وانتهاكات، حب وغرام، دموع وعذاب، كلّه تحت جنح الليل، في الأفنية الخلفية، الأقبية، القرى المعزولة، طرقات المدن وحاناتها ومقاهيها. ثم هاهو يخبئ تلك الحدقات التي تثير الريبة، وتبث الفزع، تبزغ من بين الظُلمة الكثيفة، يشجعها هذا السكون الموحش  على التوهج، مثل مصابيح شحيحة  وسط ليلٍ حالك.

ما عدتُ أميز بعد أن تعطلت سيارتي، ونفد شحن هاتفي، في ذاك الطريق القصيّ، سوى الوميض المريب، يشع من الحدقات المتوارية في أكثر من ناحية، كأنها على وشك الانقضاض عليّ. سأرديهِ لو كان جندياً، حتى لو توسل بي أن أُبقي على حياته، كما في ذلك اليوم قبل ثلاثين عاماً ونيف، حيث كانت عيناه تستنجدان، فيما لسانه يرطن بلغةٍ لا أفهمها، لا انكرُ أني ترددتُ قليلاً، للحظة خطر لي أن ثمة زوجة وأطفالاً في انتظاره، احتجت بضع ثوان، لأقرر إطلاق الرصاصة. شاهدتُ أنفاسه تتلاشى، تنسحب من أماكن في روحه لتضيع مرة واحدة وإلى الأبد.

لم  يبق لي سوى بلوغ الطريق الرئيسي مشياً، ربما سأحتاج نصف ساعةٍ فيما لو حرصتُ على السير السريع بلا استراحة. ليس كما لو أنني أحملُ أحداً فوق كتفي، عائداً بطريق الإياب، حيث كان رفيقي جريحاً ذات عام، وثُقل جسده فوق كتفي مُجهِداً، كنتُ أسير بخفة، لا يُقلقني سوى زفيره وتأوهاته المتقطعة، سخونة أنفاسه تلفح وجهي.

عندما تتوقف تنهداته، أناديه، أرفع صوتي مُشجِعاً: (أنه امك كالتلى الگاع وأنت وليدي.. عريس وربعه يزفونه وعرسك عيدي). أعرف أن للكلمات سحراً قد يوقظ ما أوشك على الأفول في الأجساد.

غير بعيدة عنا القذائف، أزيز الطائرات،  بقايا الجثث هنا وهناك، ربما بعضها كان محمولاً ايضاً على الأكتاف، لكن الكتف يأن، وقواه تنهار، فتهوي الأجساد من على أكتاف الرفاق، وتظل وليمةً للجوارح، والقيظ والغبار، أشُّدُّ  اكثر جسده إلى جسدي، اتشبثُ ببقايا حياته. أكاد أسمع صوت ضحكته عندما يغلبني شوطاً من الدومينو، وارتشافه الحميم للشاي، وحديثه عن آخر روايةٍ قرأها لماركيز، ويستغرب مذهولاً كيف إن الأم في روايتهِ وقائع موت معلن، تغلقُ الباب لحماية ولدها من القتل لظنّها أنه في الداخل بينما  هو خارج الدار يستنجد، لم يبق ما يثير الذهول يا رفيقي، فهذه العيون المتلصصة الآن تكاد تنقض عليّ، بريقها شرير، وميضها غامض، تسير معي مثل ظلي، تنأى وتدنو، تشعُّ وتخبو، تتراقص مثل موجة، مثل مصباحٍ على صفحة نهرٍ صاف.

أحثُّ الخطى لكن من دونك، جسدي خفيف، ثمة شيء ما يتورم بقلبي. عندما تنتهي العتمة وتتلاشى العيون المتلصصة سأقصدُ طبيب قلبٍ مرموق، سيعثر على آثار جراح قديمة، أعرف أنه لن يلقي بالاً لها، لم تعد تلك القصص والخسارات تثير اهتمام أحد.

ها هي العيون تقترب أكثر، عيون تشبه الأفواه، فاغرة حدقاتها.

كم ستكون ميتتي بشعة الآن! مقتولاً بعيون شرسة مجهولة.

حاولتُ إيقاظك بصوتي المتهدج: (أنه امك كالتلي الگاع.. وعرسك عيدي) لكن جسدك ازداد ثقلاً، على كتفيّ، كأنه غير مبال بأغاني النصر، لكن هل يعبأ الموتى حقاً بالنصر؟ فكيف سيحتفلون ولا مقاه هناك يرتادونها، ولا كتبَ أو مواعيد؟ لا صِحاب أو طرقات؟

تركتك للأرض ومضيت، نسيتُ لماذا كنا هناك، نتجرّع الخسارات، وحيدين، مثلي الآن، تلوحُ لي الأضواء، لكن العيون، عيون الذئاب.. ربما عيون الكلاب عيون الـ.. تطبقُ على جسدي، تؤلم وتخنق، أكاد استسلم، أتمتم منادياً إياك: (إنه امك..). تغمر المكان أضواء مصابيح الشارع الرئيسي، تنكشف العيون المحدقة في الوجوه الباردة، على لافتات المرشحين الشاخصة في الطرقات وتفرعاتها الضيقة.. تتلاشى الأنفاس، أحتضنُ الأرض، مغمغماً بأنشودةٍ قديمة.