غسان كنفاني.. العالق في قضيَّة وطن
حسن الكعبي
في مقابلة أجريت مع الكاتب الفلسطينيّ يحيى يخلف قال: «قابلت كاتباً المانيا قال لي بالحرف الواحد: إن رواية واحدة من روايات غسان كنفاني جعلته يفهم القضيّة الفلسطينيَّة أكثر مما فعلت عشرات النشرات الدعائيّة المباشرة».على الرغم من أن «عائد إلى حيفا» من أقصر روايات غسان كنفاني، بيد أن العمق الفكري الذي انطوت عليه يضعها في مقدمة روايات كنفاني ذات الأهمية، بل في مقدمة أهم انجازات تلك الفترة التي تمحورت حول فترة الستينيات في أعقاب النكسة العربيَّة.
إن أهمية «عائد إلى حيفا» تكمن في كونها إجابة عن الأسئلة المثارة حول أسباب النكسة والتي طرحت في أعمال هشام شرابي وحليم بركات وآخرين غير أن الأجوبة المقدمة في هذه الأعمال الفكرية، كانت قد حصرت الأسباب في كونها ترجع إلى البنية البطريركية الأبوية للمجتمع العربيّ خصوصا في إنجازات هشام شرابي والتي حرمت المرأة من حق المشاركة في المواجهة ضد المحتل حيث إنه ومن منطلق تلك الابوية وميراث الشرف كان لابد للعربي من المحافظة على العرض الذي تمثله المرأة فكانت الهزيمة هي السبيل لصون المرأة من الانتهاك وترك العرض الأكبر اي الوطن يستباح من قبل المحتل.
غير أن حليم بركات لم يجار هذه الأجوبة بل أنه حصرها في إطار أزمة الذات العربيّة وفقدانها الاحساس بعمق الانتماء للوطن هذه المنطقة المهمة هي التي استأثرت باهتمام غسان كنفاني وقد اضاءها بحساسية أكثر عمقا من كل الاجوبة الفكريّة المقدمة حول أسباب النكسة.
إن العمق الفكري هو السمة الغالبة على أعمال غسان كنفاني وعلى وجه الخصوص ضمن إنجاز أدب المقاومة فكنفاني يؤسس لأدب يتجه في إطار شرح أبعاد إنسانية القضيّة الفلسطينيَّة الأمر الذي يسوغ قصر رواية عائد إلى حيفا واختزالاتها لكونها رصدا للتحولات الدارماتيكية في اثناء النكسة وكذلك هي بمثابة البحث عن الأسباب في اعقابها.
بيد أن قصر الرواية واخترالاتها لم تخل بالشرائط الفنيّة للعمل الروائي المتكامل فقد جاءت رواية عائد إلى حيفا بتقنية عالية اعتمدت الارتجاع الفني الفلاش باك في توسيع المساحة الزمنية وتبئير الدلالات الفكرية في إطار تنامي الحدث الروائي مما يجبر القارئ في إطار تفكيك مرموزات الرواية للتعامل معها بوصفها مشروعا روائيا ضخما ومتميزا يرصد الصراع بين جيلين يحاولان البحث عن هويتهما وكذلك يرصد الوعي الكامن بين هذين الجيلين وتحولات هذا الوعي في ظل الطارئ من المتغيرات الفكرية.
وبذلك فإن غسان كنفاني يعتمد المزاوجة بين الجمالي والفكري ليخرج بمنجزه عن التقنين والمحلية على الرغم من أن المرحلة كانت تسوغ له التخلي عن جماليات النصّ خصوصا إن البنيان الفكري الذي يعتمده في إنجازه يوحي بذلك « فكل من يقرأ عائد إلى حيفا أو أم سعد أو برقوق نيسان حتى في شكلها الأولي يحس حقا أن الرمز لم يعد ضروريا وإنما أصبحت مواجهة الحقيقة هي الشيء المهم، أيا كان الأمر فإن غسان لم يستطع أن يبلغ تلك المرحلة من الواقعية طفرة أو على نحو تعسفي وإنما حاول استغلال المزاوجة بين بناءين ظاهري وباطني وجرب طريقة الاعتماد على الرمز في الايحاء والتأثير في إطار هذه المزاوجة الواعية».
يرصد كنفاني التحولات الفكرية ويستشرف آفاق تلك التحولات التي يحررها عن وعي شخوصه ضمن الحوارات الداخلية أو من خلال الحوارات الثنائية حيث تبدأ أحداث الرواية في اعقاب النكسة وهو الزمن الداخلي للرواية ومن خلال عودة سعيد.س، وزوجته صفية إلى حيفا بعد سماح قوات الاحتلال للفلسطينيين بزيارة مواطنهم وتأتي عودة الزوجين بدافع البحث عن ولدهما البكر خلدون الذي تركاه في البيت ولم يتمكنا من اصطحابه معهما اثناء هربهما من حيفا مع ولدهما الصغير خالد ومن خلال هذه العودة يكشف الراوي عن محنة جيل يمثله سعيد.س، اكتشف اخطاءه بعد فوات الأوان، لكنه يجد في منح الحرية للجيل الجديد الأبناء تكفيرا عن اخطائه.
تبدأ رحلة اكتشاف الخطأ منذ دخول سعيد إلى حيفا فثمة إحساس يهيمن على سعيد يتجلى من خلال شعوره بأنّه غريب عن حيفا وأن شوارعها ومبانيها وكل أشيائها التي يعرفها جيدا بدأت تنكره وما يعمق لديه هذا الاحساس هو لقاءه بـ (فارس اللبدة) الذي جاء هو الآخر إلى حيفا بدافع استرداد صورة شقيقه الذي آثر البقاء في حيفا للدفاع عنها فسقط شهيدا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي.
إن فارس اللبدة يغدو تحولا مترجما لشعور سعيد.س، أو أنه أجوبة لتساؤلات سعيد الداخلية ومرآة تجلو له ما سيحدث، لأن فارس اللبدة يخبر سعيدا بأنه خسر ما أراد استرداده وخسارته هذه كانت متوقعة لديه منذ اللحظة التي أحس بها بأنّ أشياء حيفا تنكره وهو إحساس مشابه لإحساس سعيد لذلك فإن فارسا يصبح بمثابة المعادل الموضوعي لسعيد .س، والصورة المكملة لجيل الخسارة الذي يمثله سعيد.س أيضا.
ثمة انزياح في الوعي يطرأ على فارس اللبدة في أعقاب استعراض ماضي الخسارة، ويتمثل هذا بانقلاب الموازين، إذ يبدأ فارس اللبدة يزن الخسارة بميزان المبادئ ووعي الانتماء للهوية، هذا التحول في الوعي يحدث على اثر وصول فارس اللبدة إلى بيته في حيفا بغية استعادة صورة شقيقه بيد أن المستوطنين الجدد لداره يتوسلونه بأن يترك صورة شقيقه في الدار، لأن صاحبها يجسد أعظم القيم الإنسانيَّة، وهي الاستشهاد من أجل الوطن، لذلك يشعر بأنهم أكثر أحقية منه بشقيقه، ولذلك فإنه يقرر الالتحاق بالمقاومة ليؤكد انتماءه لشقيقه، وهذا القرار الذي يتمنى سعيد .س أن تؤاتيه الشجاعة ليتخذ قرارا مثله، لأنه بدأ يشعر بخسارته لخلدون قبل أن يلتقيه ولذلك فإنه يقترح على زوجته العودة إلا أنها ترفض بدافع استجابتها لغريزتها الأمومية.
إن لقاء سعيد.س بفارس اللبدة أُثار لديه أسئلة كثيرة هي بمثابة البداية لتحولات الوعي/ وعي الوطن، كقضيّة (فماذا يعني الوطن؟ أهو البيت أم أثاثه أم خلدون أم...؟) إلا أن الإجابة تظل معلقة في وعيه من دون أن يجهد لاستدراجها لأنه يشعر شعورا واثقا بأن الإجابة ستنكشف ريثما يلتقي بخلدون.
يشعر سعيد بغربته عن الأشياء رغم أنه يجد كل أشياء البيت في محلها لم تتغير حتى موقع التلفاز، ويحاول أن يعدي زوجته بذلك الشعور فتتنكر له، لكن سعيد كان واثقا من أن تنكرها هذا سيتغير على أثر لقائهما بخلدون ولدهما، فخلدون أصبح يحمل اسما آخر هو (اودلف) ضابط في القوات الإسرائيلية (بداية تحول في مسار القضيّة التي يسعى الراوي للكشف عنها ) عبر اللقاء البارد بين أب بدأ يتشكل وعيه وفق مبادئ خاصة وبين ابن لا يؤمن إلا بأبوية من تعهده بالتربية طوال فترة طفولته، بالإضافة إلى إيمانه الشديد بالقضيّة (الإسرائيلية) التي يدافع عنها، وهذا تحولٌ تام في دراما الحدث حيث يتخذ اللقاء صيغة صراع بين عدوين: ضابط إسرائيلي =محتل رسمي لملكية مواطن فلسطيني/ الأب في هذا الحال يمثل الطرف الآخر في الصراع.
لذلك، فإن العتاب الودي ينحدر من صيغة الحوار الدائر بين الأب والابن، ويتحول إلى مُشادّة تستعين بلغة ثالثة هي (الانجليزية) مع معرفة الطرفين للغة كليهما (وهي إحالة ذكية من قبل الراوئي لاضفاء صبغة عالميّة تحرص على إدارة الصراع بين الطرفين).
يحاول كنفاني أن يزج بــ (صفية) إلى قلب الصراع ليخرجها من سلبيتها – بوصفها مرموزا للمرأة والجزء الآخر في اشكالية النكسة عن طريق تساؤلاتها واستفهاماتها عما يحدث، فيختزل سعيد الإجابة حول استفساراتها: بأن ولدهما خلدون قد مات
ترتضي صفية بواقع الأمر وتركن للصمت، وكأنها تعي حقيقة الأمور عبر توحيد مشاعر ومبادئ زوجها الجديدة وبذلك تغدو صفية شخصية في غاية الإيجابية، لأنها تقبل بموت خلدون (كمبدأ) وبذلك تتنكر لمشاعرها الأمومية استجابة لمبادئ الوعي الجديد الذي يتم وفقه تحديد حقيقة الانتماء، الأمرالذي يرقى بالمرأة إلى قمة المواجهة.
ينتهي اللقاء بين الأبوين والابن، وتبرز في وعي سعيد إجابة لتساؤل كان يؤرقه حول ولده خالد الذي ولد في المخيمات، وكان دائما يلح بطلب الالتحاق بالمقاومة، وكان سعيد يقف ضد رغبته تلك، يتساءل سعيد:(لماذا كان خالد يسعى للالتحاق بالمقاومة دون أن يعيش بحيفا؟).. إنه وعي الوطن بوصفه قضية عادلة يجب الدفاع عنها، تلك الإجابة استشفها سعيد من لقائه بخلدون الذي تحول إلى اودلف بمبادئ مغايرة تماما لمبادئ مواطن عربي هذه الإجابة تشعر سعيد بالارتياح فيتمنى من أعماقه أن يجد (خالد) قد حقق رغبته في الالتحاق بالمقاومة، وبذلك يعوض خسارته لابنه خلدون وخسارته لنفسه أيضا.
إن رواية «عائد إلى حيفا» تظل بالنهاية رواية أجوبة عبر مواكبتها للتساؤلات التي اثيرت في اعقاب النكسة العربيّة ومن خلال طرح مفهوم وعي الوطن كقضيّة، والذي بدأ يتبلور مع الجيل الجديد الذي يمثله (خالد) على الرغم من أن كنفاني لم يمسرحه ضمن مشاهد الرواية، وتركه معلقا كمفهوم يتم طرحه عبر مشاهد الرواية، إلا أنها إحالة فنية يروم الروائي عبرها طرح مفهوم جديد مفاده أن وعي الوطن كقضيّة هو مفهوم بدأ يتبلور مع جيل في طريقه
للظهور.