جدل الوظيفة والجمال

ثقافة 2023/12/28
...

 جمال العتابي

 

العلاقة بين اللوحة والإطار كانت دائماً حيّة وخلّاقة، وحميمية، وجدية أكثر مما يعتقد البعض، وتاريخيَّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحقب الفنية،  وتقاليدها وعاداتها، ومكانة الفن في المجتمع، إطار اللوحة جزء من تكوينها، مهم وضروري، هو اكتمال العمل، يسبغ عليه الوحدة، وعادة ما يتخذ أشكالاً عدّة، وطالما يكون الإطار مربعاً، أو مستطيلاً، وقلّما وجدناه دائرياً أو 

بيضوياً.

من وظائف الإطار، أنه فعل هندسي يعمل على تحييد العمل عن الوسط المحيط به، وابرازه بشكل مستقل، لكنه من طرف آخر يقوم بربطه مع ما يحيطه، بمعنى آخر أنه جزء أساس من اللوحة، وعمل الفنان، فاذا كان طرازه يتناسب مع طابع ونظام المظهر الداخلي للبناء، يكون بذلك قد أضفى الكلية على المشهد.. وتجدر الاشارة الى أن لون الإطار، وقياساته، وغنى عناصره الأخرى تؤثر بشكل كبير في مظهر اللوحة، هذا ما يقود إلى ضرورة وجود وحدة خالصة بين اللوحة والاطار، حيث يؤدي دوراً غير رئيس بالطبع، لكنه ضروري. وهو في حقيقة الأمر كائن بشكل فعلي، قبل وجوده بشكله المادي، طالما حدّد أبعاد العمل الفني ومساحته، وحجمه.

خارج اللوحة والفن، يأخذ الاطار بعداً فلسفياً، وسياسياً، وديموغرافياً، وغيرها من الأطر المعرفية المتداولة، فهناك الاطار الفكري، والاجتماعي، والسياسي، وهو لازمة تترافق مع التأطير الحزبي والأيديولوجي، ومرافقة لضيق الأفق، والجمود العقلي، وهو أداء يرفض الجديد والحداثة، وفق هذه المعطيات حاول الرسام الاسباني (بيري بوريل ديل كاسو 1910 - 1835) توظيف هذه الأفكار في عمل فني أسماه (الهروب من اللوحة)، بثلاثة أبعاد، بدلاً من بعدين، لخلق نوع من الوهم البصري، واضافة محور رؤية غير موجود، علّق عليه: "عندما تخرج من الاطار الذي صنعوه لك، ستندهش وستندم على كل لحظة عشتها عندما فرضت عليك قيود الاطر والتقاليد الموروثة" صوّر ( كاسو) طفلاً، وهو يخرج من الإطار مذهولاً وخائفاً ينظر بدهشة الى الخارج، العالم الجديد، عالم التغيير الذي ينبعث نوره على يسار الطفل، اللوحة تدعو المتلقي الى التفكير (خارج الصندوق)، لم تكن محاولة التحرر من الاطار سهلة ولا رخيصة، لكنها كانت ردّة فعل عنيف لموقف عنيف، ومقاومة قوية ضد الهيمنة. عبر تاريخ الفن، ظلّت العلاقة بين اللوحة والاطار، غير ثابتة ومتغيرة، مثل ما تغيرت أساليب الفن وتعددت مدارسه، وسعى الفنان إلى تجاوز فروض الأيقونة التي كانت مسيطرة خلال القرون الوسطى، فأبان القرن الخامس عشر تقريباً، ولدت اللوحة بالمعنى الحديث لهذه الكلمة، ومعها ظهر الاطار، على الرغم من أنه ظل في البدء متأثراً بتقاليد المرحلة السابقة، مغلّفاً بالدانتيلا 

والزخارف.

لم تتعارض الإطارات الأولى كلياً مع اللوحة، كما لم تتمايز عنها، فالخلفية ذات اللون الذهبي في الأيقونة الروسية القديمة، او البيزنطية انتقلت الى الاطار، حتى ان الرسم كان في بعض الاحيان يتطاول عليه، وفي ما بعد أخذت الحدود الفاصلة بين اللوحة والاطار بالاتساع والتوضيح، وكذكرى للماضي احتفظ الاطار باللون الذهبي  واختفى نهائياً من الخلفية، والذي كان يعني في الأيقونة الملكوت السماوي، وأصبح فيما بعد ينظر إلى هذا اللون بشكل شرطي كصفة مكملة للإطار، وبقيت هذه التقاليد طويلاً حتى عصرنا الحالي، على الرغم من أن دواعيه ومنشأه نسيت تماماً.  وعندما امتلك الإطار الاستقلالية، أخذت أشكاله بالتنوع، فانتشرت النماذج المكونة من عناصر معمارية ( أعمدة، تيجان، أقواس، أفاريز، عقد)، وأصبحت تشبه بزخارفها شرفات القصور، فلجأ الفنان إلى تصنيع الاطار من الخشب والجص فقط، بل تعدى ذلك الى المواد والخامات الثمينة من الفضة والعاج والصدف، وغيرها، في تطورات لاحقة أصبحت غاية الاطار مساعدة المتلقي على تركيز النظر في أبعاد اللوحة، وخلق الانطباع في وجود العمق والمنظور، هذا ما دأب عليه الفنانون الهولنديون في القرن السابع عشر، وإذ ساد فن (الباروك)، تعاظم دور البهاء والرونق، وكان للاطار أن يعكس هذه التطورات بطريقته الاستعراضية، البعيدة عن وظيفته المادية والجمالية.

في القرن التاسع ظهر التزيين الغالي الكلفة والمعقد، خصوصاً مع تصاعد حركة العرض، فثمة لوحات اطلق عليها (القياس المكتبي)، كانت تنفذ خصيصاً لتزيين حجرات هاوي الفن المنحدر من الطبقات الوسطى. 

وفي مطلع القرن العشرين ظهرت بعض الأصوات الداعية إلى رفض الإطار، والتخلي عنه، لمنح اللوحة بعداً لانهائياً، وكان أن قام فنانو الاتجاهات الطليعية تحت تأثير هذه البدعة بعرض أعمالهم من دون اطار.

وتتفاوت الآراء وتتعدد، لدى فئات المتلقين، فمنها ما يؤيد، ومنها ما يعارض، وفئة أخرى تصف الفكرة بأنها جميلة ومبتكرة، وتفرض بعض قاعات العرض العالمية شروطاً بأن تكون اللوحة من دون إطار، من أجل أن يبقى العمل الفني معبراً عن نفسه، وبالتالي يبقى المتلقي مشدوداً اليه. وإن عمد الفنان في بعض الأحيان، إلى الاستغناء عن الإطار مباشرة، ووضع القماش على الجدار، كبديل عنه، في اعتقاد منه، أنه قدّم شيئاً جديداً، لكنه في الواقع لم يخرج من إطار الأسلوب التقليدي، وهذا ما يقود للقول إن "الحداثة ليست في الاستغناء عن 

الإطار".

لكن ليس بمقدورنا الاستغناء عن العلاقة بين الوظيفة والقيم الجمالية، فالجمال الوظيفي وحده يميّز الإطار بأغراضه الانتفاعية، هو أشبه بالمحتوى المعماري الذي يشمل البيئة والحيز، والمواد، ووظيفة عاطفية تعبيرية، وإذا كانت الوظيفة هي الأقرب للمنطق، والأسهل في التحديد، فإن الجمال استحوذ على النصيب الأوفر من الجدل وتباين

الآراء.