الغرباوي.. سؤال الهويَّة والذات

ثقافة 2023/12/28
...

  عزالدين بوركة

«تنسى، كأنك لم تكن/ تنسى كمصرع طائرٍ/ ككنيسةٍ مهجورةٍ تنسى/ كحبّ عابر/ وكوردة في الليل.. تنسى».. لا أعلم لماذا كلما توقفت عند تاريخ الفن التشكيلي المغربي، أستحضر الجيلالي الغرباوي (1930-1971)، وسيرته، وحكاياته، هذه الأبيات العامرة بالدهشة لمحمود درويش. الأكيد أن الغرباوي لم يُنسَ، لكن شيئا ما أكيد في سيرته، في آلامه لم يحكَ كاملا، أو لم يحكَ قط.. كل ما سمعناه هو سرد غيري.. لا سيرة ذاتيّة لهذا الغرباوي، الذي رحل غريبا على مقعد عمومي في حديقة فرنسية، في ليلة مثلجة.. رحل متجمدا لكيلا ينسى.

تكاد سيرة هذا الفنان تتشابه وتتصادى مع سرديّة «فان غوخ» وغيرهما من «شهداء الفن».. كل منهما وفدا من الآلام عينها، وكل منهما ارتمى في أحضان الدير، هروبا من صخب العالم وضجيجه المؤثر في صوت الذات العميق.. فرّ إليه الهولندي من أجل التبشير والدفاع عن المقهورين، أما المغربي فمن أجل الطمأنينة النفسيّة، فحسب، والبحث عن رؤى جديدة بعيدا عن صخب الآخرين وقريبا من ذاته.

لعلي إن أردت كتابة سيرته، العصية على الترميم، أن أختار لها «آلام الغرباوي» عنوانا تراجيديا، فيها يتجلى الفن بوصفه تلبية لنداء الفن، نداء الكينونة، بتعبير فيلسوف الغابة السوداء. فإن كانت مهمة الشاعر، بالنسبة لهايدغر، الكشف عن أغطية اللغة الحجابة للوجود، فمهمة الفنان أيضا تعرية الوجود من كل ستائر المرئي المانعة لكل تجل في صوره الممكنة. وهذا ما فعله فان غوخ وهو يمارس الفن بشاعريّة اللون، وعينه ما فعله الغرباوي وهو يجرد المرئي من كل مشخص ساتر وفاصل لإدراك الغنائيّ والشاعريّ في الوجود.

لم يرتمِ الغرباوي في أحضان أية رؤية بطولية ومثالية، تجعل من قمم الأولمب مرجعا لها، ولا أية نزعة بروميثيوسية، تجعل منه صيحة انتصارات فارغة، ولم يبتغ أن يصير سيزيفا يحمل حجرا ثقيلا ملعونا بمعاودة مطاردته دائما.. ارتمى الغرباوي إلى أحضان الفن، حتى تستكين روحه وتهدأ هواجسه.. ويجد الإجابات عما يخالج ذهنه من أسئلة شائكة. لعل الفن لم يجب عن أسئلته إلا بأسئلة أثقل وأعقد! همه أن يفتح أبوابا موصدة تعرج بالفن المغربي بعيدا عن أيّ تبعية غَربيَة.

لا يصوّر الغرباوي، أو بالأدق توقف عن رسم، أيّ واقع عيني،لأنه «بات»يُجسّد «حالة».. عنفا، تراكما، وتضخما وشغفا، وآلاما.. حالة من الفوضى والعبث، اللذين يتحولان إلى منبع نظام وهمي، ينسجه الإنسان في مخيلته/ ذهنه، حتى يتمكن من إدراك العالم وتمثّله. العالم فوضى خلاقة، وحالة من التجريد المطلق الذي نحوّله إلى صور مشخصة، لأننا ميالون فقط للهدنة مع ما لا نعيه.. ولأننا نفزع مما نجهله، مما لا نراه، مما لا ندركه، نصطنع صورا وهيئات تريحنا: نظاما مؤقتا نهتدي به وإليه.. حاول الغرباوي أن يفجر كل طاقاته الذهنيَّة في فوضى تجريد غنائيّ وإيمائي، منطبع بالعنف المنبعث من الحبر وتشابكات الخيوط وتسايُجها، حتى ينكشف الوجود عاريا من أي أثقال.

يجسّد الغرباوي حالات من إظهار المضمر وإبراز الخفي والكشف عن اللامرئي.. تجسيد صارخ ومجربّ (تجريديا) لنظرية بول كلي: «يجعل الفن اللامرئي مرئيا».. وتعبير روحاني عن صوت الذات.. إلا أنّه لم يتبن هذا التجريدي المغربي الأول، الأب الروحي للفن المغربي الحديث، الرؤية الغربية كاملة. ولم يُحدث قطيعة مع التراث في فنه ورؤيته الجماليّة.. الحداثة عنده ليست قطعا وفصلا مبرما أو قتلا للأب.. بل ينبغي أن نجعل منها دعوة للعودة للأصول وتفكيك رموزه المشفرة، وإعادة تأليفها مع ما يتماشى وسؤال الهوية في زمننا الحاضر، فكان لا بد أن يستعين بالوشم وبالحرف الأمازيغي (في إيماءته بشكل خاص) - شأنه شأن فنانين من جيله- مُذَوِّباً إياهما في مشهد من الشدة والحدّة الصباغييْن، اللذين يتحولان إلى طبقة نسيجية تهب اللوحة بدنا وتضاريس، لكنها لا تؤوّل من حيث إنها مشاهد عينية، بل من حيث إنها اندفاع للآلام المكبوتة، التي لا تريد أن تظهر على هيئات صور تشخيصيّة. غير أني أتساءل دائما، هل أخطأ الغرباوي ومن معه، حينما أخرجوا الوشم من حامله/الجسد؟ ألم نكن أمام حالات من فنون الجسد والأداء الفني؟ لم يتمكن جيله كاملا من إدراك ذلك، إلا متأخرين.. في الوقت الذي قطع الغرب مع أي نزعة تصويرية حداثية لصالح الانعراج صوب المعاصرة! هل كان علينا أن نكون غربيين ولو تقنيا؟

عاش الغرباوي، منطويا في حزمة من الاضطرابات، التي تنبعث من طفولته المعتمة القابعة في غرفة قصية في مأوى للأيتام.. سيتحول من بائع جرائد إلى فنان، بفعل الصدفة والحظ والاجتهاد، لكنه حظ غير مكتمل.. للمأساة دائما فرصها الكبرى للقضاء على كل أشكال الملهاة في حياة هذا الفنان، الذي كاد يَنسى صور والديْه، اللذين رحلا عنه في منعطف سن المراهقة. ولعل هذا النسيان للوجهين الأبويين، (كأنهما لم يكونا)، تحول عند الغرباوي إلى حالة من تجريد كليّ للعالم بكل الوجوه/الصور.

سيقفز الغرباوي الشاب من أرض المغرب إلى عاصمة الفن العالمي آنذاك، باريس، بفضل حظ ملاقاة مارسيل فيكير Vicaire، ودفعة داعمة من الأديب أحمد الصفريوي الذي رأى فيه شابا وطالبا مجدا.. غير أن هذا الجسد/الذهن/الشاب الذي سيحلق في السماء، ظل مشحونا بسؤال الفهم: هل سوف يفهمون فني؟

أقامت الحداثة الفنيّة أولى أعمدتها في أرض المغرب مع أولى أعمال الغرباوي، بملمح مجرد وغنائي، غير أن غنائيته لا تنطبع بأي حالة من البهجة أو الفرح. كأنها تعبير صارخ على حالة المغرب والمغربي، إبّان الاستعمار.. مثلما أنها تعبير عما يعتمل هذا الفنان من هواجس وأسئلة. وهو الذي صرح قائلا: «كنت دائما مهووسا بالفن التجريدي، منذ عمر الثالثة عشر. وبشكل عفوي، حاولت، عبر هذه الوسيلة، أن أترجم

انطباعي». 

الهوس، التعبير أدق الذي يختزل كل مسار هذا الفنان، ورغم قصر المسافة الفنيّة في سباق العمر، الذي لم يسمح له بأن يسابق من جايلوه في دروب الفن الوعرة، إلا أن الغرباوي بات أيقونة وعلامة وتاريخا ومرحلة نؤرخ بها للحداثة التشكيليّة في هذا البلد.

رفض الغرباوي كل فن احتضنته الحماية، لصالح دعوة صريحة لتجاوز، وبناء فن مغربي ينبعث من سؤال الهوية المغربية وذات المغربي. فقد شكل الغربـ(ـي) بالنسبة إليه غربة، لا بد من الفرار منها.. لكنها تحولت إلى ركح لعرضه التراجيدي الأخير، عليه انتهت قصة هذا «الشهيد من أجل فنه»، الذي أراد «خوض معركة لكي يفرض صباغة مغربية خاصة». فرّ إذن الغرباوي إلى التجريد، (فرار من الغربي إليه ولو جزئيا!)، من أجل رسم معالم تصوير مغربي، منفلتا من سطوة الأكاديمي، ومن قيود التصوير المنطبع بالغرائبيّة والاستشراق الذي جاء محمولا على ظهر سفن الاستعمار. ولعلّ التجريد عنده مستمدّ من الرغبة في العودة إلى الأصول جماليا، وملامسة البعد التجريدي في الفن الإسلامي، يعدّه جزءا لا يتجزأ من الهوية الفنية والثقافية المغربية.

منحه التجريد كامل الحرية للمخاطرة في دروب التجريب والتعبير العنفواني، غير أن سؤاله: «هل سيُفهم فني؟» كاد يُفقد الغرباوي الصواب، عندئذ سيهرب إلى الدير الكائن في أعالي الجبال، والقابع عند حدود خط غابوي كثيف.. كأنه يسترجع طفولته وينأى إلى ذاته في صمت رهيب. في تلك اللحظة سيعاود اللقاء مع المـُشخص بكامل حالاته الانطباعيّة.. هناك التقى الغرباوي الفنان بالجيلين الطفل والمراهق، واستعاد ذكرى الوجوه والأمكنة، لينزل آلامه من على صليب جسد المثقل بمسامير الأسئلة، ليُجسد ذلك عبر صورة للسيد المسيح.. «لكن حين صور الغرباوي السيد المسيح مصلوبا، لم يكن يشي ذلك باعتناقه للديانة المسيحية، أو بقيام واشجة روحية بينه وبين أعضاء الأخوية البندكتية، بل وظف صورة المسيح توظيفا استعاريا رمزيا ليُعبر من خلالها عن قدره التراجيديّ الخاص»، يخبرنا محمد الشيكر.

يعد الموت القسم المشترك بين الغرباوي وفان غوخ، وسبيلا لأن يغدو أيقونة.. لقد تشاركا معا همّ الفن والسؤال عينه، وتقاسما - رمزيا- في لحظة معينة من حياة هذا المغربي، التعبير الرمزي والانطباعي المنبعث من أعماق الذات المشحونة بحالات من الجنون، الذي لا يتجسد في صور واضحة الدلالة، وهادئة، بل عبر عنف وحالات من الالتواءات والاضطرابات والتشابكات والتداخلات الصوريّة واللونيّة.

بقدر عنفها وعنفوانها وقوتها وبأسها الصباغي، لم تكن أعمال الجيلالي الغرباوي تبحث عن السوداوية المطلقة، بل تمثلت بالنسبة إليه كنفق نبحث في أعماقه عن منبع الضوء، «إن البحث عن الضوء أمر ضروري بالنسبة لي. الضوء لا يخدع» يقول، مهتديا بقول صديقي الشاعر والفنان الفرنسي هنري ميشو بأن «الفن دائما مدعاة لتجاوز الذات».. حركة إلى الأمام، إلى منبع الضوء في نفق طويل.. كلما اعتقدنا أننا اقتربنا منه كلما ابتعد، ليصير مدعاة للمسير الطويل.. لكن، ولعل، الغرباوي قد طال منبع الضوء ذاك، وبلغه وهو جالس على مقعده هناك تحت السماء المثلجة غيومها، مكتنفا غطاء الصقيع، في غربة قاسية في أرض الغرب الذي رفض كل املاءاته الفنيّة الفولكلورية..

يا لها من مفارقة، أن تجمع كل من، الغرباوي والغرب والغربة والمغرب والاغتراب في سيرة رجل واحد، وُلد ليكون يتيما ويعيش غريبا ويموت مغتربا. وأليس التجريد عينه غربة للمألوف واغتراب كامل للمرئي والمشخص؟ مات الغرباوي غريبا على مقعده في غربته اللااختيارية، ليتحول إلى أيقونة ولحظة تأريخ دونما أن يُنسى كأنه

لم يكن.