ابتهال بليبل
تُبهرني وتُدهشني دوماً بعوالمها النورانيَّة الشفيفة تلك الأعمال الفخمة المبرقعة بألوان المقدّس وجزئياته الدقيقة التي تأخذ العين إلى اللوحة مباشرة وتسمّرها حتى تغيب عمّا حولها تماما، فلا ترى إلّا هي.
وتجعل الرائي يتصاغرُ أمام ما يراهُ وكأنّه يشعر بصورةٍ ما، بأنّه مجرّد ذرة غبار في كون شاسع تحاول تلك اللوحات الكبيرة تجسيده وتثبيته في رؤى لونيَّة صادمة.
فتلك الاشتغالات الجادة جدّاً تبحث في أغوار العمق الإنساني، وتجسّد نهاياتٍ قارّة ربما تشكّل هي البدايات التي نهجس دائماً طرق تكوينها الغامضة وتشكلها في لحظة سحيقة من الذاكرة، فمن الصعب حقاً أن نكتُب عن النهايات بأريحيَّة وثقة من دون أن تطرح تلك الأحداث التي مررنا بها - بوصفها تجارب وجوديّة - إجابات عن أسئلة استغراب واستفهام استقرت في دواخلنا طويلا، مثل: هل بالفعل هذا الذي كان هو أنا؟، وكيف وصلت لهذا؟، وأين كنت تلك اللحظة؟، والأدهى أن نتصوّر أن الأمر برمته وكأنه دعوة إلى رحلة بعيدة عن التفكير النمطي السائد، وأن نتجاوز العتبات المفترضة، ونحن نحتفي بطقوس تلك التساؤلات من خلال "تلقائية الفعل، واللحظة المتفرّدة، التي تعطينا الإحساس بحريّة إنسانيّة"، كما يقول المؤلف وراقص الباليه مارس كونينجام.
تأخذني هذه المقدمة للحديث عن جدارية الرسام جيوتو دي بوندوني، الذي اجتهد في تتغير قصّة الميلاد عبر إضافات لم تكن متواجدة في الواقع، فقط كي ترمز إلى الاختلاف الظاهر أو الواضح بين عهدين الأول انتهى والثاني ابتدأ، وجيوتو لم يقم بذلك إلّا عندما أدرك الفرق بين الذي يُدرِك ولا يُدرَك، لذا كانت ردّة فعله تجاهها، بوضع "الثور والحمار" ليرمز كلا منهما لعهد آخر.
لقد قدمت الجداريّة شظايا متناثرة عن أفكار جيوتو كإنسان، لذا فقد كثفها من خلال هذه الرسومات.
لم تكن جدارية جيوتو الأولى ولا الأخيرة في تجسيد العدالة الإنسانيّة والتزاماتنا تجاه بعضنا البعض في مسارين مختلفين، الأول يعلن النهاية، والثاني البداية، فهناك جداريات ولوحات كثيرة تنتقد الشر الذي يبنى على فكرة الاختلاف وعدم الفهم مثل جداريّة "البشارة" للفنان فرا أنجليكو، أو "الميلاد الغامض" لساندرو بوتيتشيلي، أو لوحة فنان عصر النهضة الإيطالي رافائيل، وكذلك لوحة بيتر بروغل، والفنان مايكل أنجلو ميريسي وغيره.
فهذه الأعمال نجحت في إظهار التناقض بين الظلام والنور بين الخير والشر والنهاية والبداية.
قد نفكّر في أن التأثير المريح للنظر لهذه اللوحات والجداريات لا ينفصل عن كونه رغبة ذاتية، تمثّل بشكلٍ ما اتجاهات الوجود الأكثر عمقاً حتى من أن نفهم ببداياته ونهاياته، وأنّه أيضاً يُقسمنا كشعوب بحسب ما نقدمه من تفاوض غاية في الاستمرار، وهو بالضرورة غير مسؤول عن
تورطنا بالكوارث الجماعيَّة.
إنَّ (الفن) هنا بوصفه أداة يتحمّل عبئاً كبيراً في إيصال هذه الأفكار التي لها تشكيلات أخرى في السرد، وفي المخيال الجمعي، وفي النحت، وفي هوامش وفنون أخرى؛ لذا نلاحظ أن الفنان يحاول أن يبني عالمه اللوني بأدقّ أدق التفاصيل، كما نجد الفضاءات والزوايا والفراغات والكتل موزعة بحرفيّة عالية، فضلا عن الحرص المبالغ به في رسم الملامح لأنّها لغة، فكل وجه هو جملة تكمل ما يفترضه المتلقي من جملة عائمة في روحه، لذا كل لوحة مشروع حوار طويل متواصل يتراتب في مستويات عديدة.
ستظل تخاطب دائماً الرائي وتفتح معه حواراً جديداً قادراً على تجاوز (الهويات) الفرعيَّة والكبرى.. حواراً كونيّاً يظل الغالب فيه هو الأكثر قدرة على الاندكاك في معاني الإنسانيّة التي ترتسم في محاولات الفن الدائمة لسحب الفرد من تعقيدات (الأنا).. إلى بساطة (الآخر) المنسجم والمتناغم والمهادن.