حضور الوسائطيَّة في عرض «مسطرة»

ثقافة 2023/12/31
...

  د. بشار عليوي

تمتاز عروض المسرحيين الشباب بالجدة والمغايرة على الصعد كافة في عموم أنحاء العالم، وهذا نابع أصلا من طبيعة التكوين المعرفي والعقلي لهؤلاء المسرحيين الذين دائماً ما يحاولون الإفلات من مجمل مهيمنات المشهد المسرحي، وإعادة رسمه وفقاً لمرجعياتهم المعرفيَّة وتوقهم نحو إيجاد موطئ قدم لهم في هذا المشهد. ففي العالم العربي وبعد جُملة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بشعوب المنطقة العربية خصوصاً بعد ثورات الربيع العربي نجد انعكاس ذلك على عروض المسرحيين العرب الشباب.
وفي العراق وبعد سقوط النظام العراقي السابق وخضوع البلد للاحتلال العسكري الامريكي ومن ثُم استفحال ظاهرة الإرهاب الأسود وانتشار جرائمهِ العديدة في جميع المُدن العراقية وبأوجه وصور مُتعددة، قد ألقى كُلّ ذلكَ بتأثيراتهِ المُباشرة على حياة جميع شرائح المُجتمع العراقي ومنها شريحة الشباب، فالتحولات والتغيرات الكبيرة والرجّات السياسية والأمنية والاقتصادية العنيفة التي عَصفتْ ببُنية هذا المُجتمع قد خَلخلت الواقع الاجتماعي، مما انعكسَ كُلّ ذلكَ على الرؤى والأساليب الإخراجيّة التي تبناها المسرحيون العراقيون الشباب (جيل ما بعد التغيير، جيل ما بعد 9/4/2003) وفقاً لطروحاتهم وتصوراتهم الفكريّة عن واقعهم الحياتي المُعيش، مما حدا بهم الى إعادة تشكيل خطابهم المسرحي الفكري والجمالي وفقاً لتلكَ الطروحات والتصورات التي تمثلت بضياع الثقة في مُستقبلهم ومُستقبل بلادِهم وعدم الإحساس بالأمان وتقلص فُرص العمل المُتاحة أمامهم والتي من شأنها تحقيق مُستقبل آمن لهم.. وغيرها.
فضلا عن أن تَكوّنَ مرجعياتهم الفكرية قد نشأ في ظل التطورات الحاصلة في العصر الحالي الذي شهدَ سيادة الوسائطيَّة بجميع حضورها، ولعلَّ أبرز تلكَ الحضور هوَ حضور الوسائط في مُختلف مناحي الحياة فجميع أنساق حياة هؤلاء المسرحيين العراقيين الشباب قد ارتكزت على الاستفادة القُصوى من حضور الوسائطيّة على اختلافها، مما حدا بهم إلى استثمار ذلكَ في عروضهم المسرحية التي قدموها، ومنها عرض (مسطرة) الذي قُدِمَ مؤخراً ضمن عروض المهرجان المسرحي لفرق التربية العاشر الذي نظمهُ النشاط المدرسي في وزارة التربية على مسرح قاعة الثقافة بالسليمانية بمُشاركة 14 عرضاً مسرحياً من عموم العراق، والعرض هو من توليف وإخراج نور الدين مازن.
وتمثيل أحمد رياض، أزهر باسم، أحمد كريم، وانتاج قسم النشاط المدرسي، تربية القادسية.
يَتحدث المتن الحكائي لهذا العرض، عن تأثير جميع الأحداث التي عصفت بالعراق على حياة الشباب العراقي، من خلال استعراض ذلكَ كشريط سينمائي يتماهى مع رحلة الحياة والصعوبات التي يواجهونها عبرَ محاولتهم الافلات من مُهيمنات الواقع، إذ يتمحور العرض حول وجود شخصيتين هُما، شخصية (المجنون/ أزهر باسم)، وشخصية (الكاتب/ أحمد رياض) داخل سجن كدلالة للوطن الذي أصبح سجناً كبيراً ومقبرة لدفن أحلامهم الضائعة وأمانيهم المُستحيلة، من خلال طرح تبديات العلاقة الرابطة بينهما رُغمَ الاختلاف والبون الشاسع بينهما في أبعاد وماهية كُل شخصية واختلاف توجهاتها وأهدافها.
فالكاتب مُعبر عن صوت الناس حينما يتلمس مُعاناتهم اليومية عبرَ كتاباتهِ لكن في إطار ساخر، أما المجنون فقد جارَتْ عليهِ الحياة لتقذفهُ في أتونها فيُعيد سرد الأحداث التي مَرّتْ بهِ وضمن إطار ساخر أيضاً، ومن هذهِ الثيمة والقاسم المُشترك بينهما يُعلن العرض عن طرح جُملةٍ من القضايا التي تَهُم شريحة الشباب بالذات وتُعبر عن طموحاتهم في وطن خالي من الإرهاب والحُروب المُستمرة من دون هوادة، حيثُ يلجأ العرض الى استخدام المُناورة في طرح الأحداث بطريقة افتراضية يُمكن أن تحصل في أي يوم وفي جميع الظروف في ظل المكابدات التي يُلاقيها هؤلاء الشباب عبرَ شخصيتي (المجنون) و(الكاتب) لينتهي بوصلة فيديويَّة تُعبر عن حياتهم اليوميّة وتواصلهم الذي أصبحت فيهِ وسائط التواصل الاجتماعي هي حلقة التواصل بينهم عبرَ استخدامهم لها.
تنوع حضور الوسائطيَّة في هذا العرض من خلال حضورها الواضح في مُجمل مفاصلهِ، إذ يلجأ صُناعهُ الى استثمار وسيط الإشهار وبأنواع عدة وكما يلي:
تنفيذ وبث وصلة فيديويّة مع بداية العرض تُشهر عن ماهية ذوات صناعهِ، وهذا الاستخدام لوسيط الإشهار وبهذهِ الصورة.
عنونة (مسطرة) بوصفها شكلاً من أنواع الإشهار عن ماهية العرض الذي يُفصح عن التباري والتسابق الذي يُغلف حياة البشر وفقاً لتبديات العصر الحالي بوصفهِ عصر السُرعة في كُل شيء، فضلا عن تجسيد التباري بين شخوص العرض بُغية الإفلات من مُهيمنات الواقع العراقي المثخن بالجِراح بفعل تداعيات الحروب والمآسي التي مرت على العراق، وهذا يُعد أحد حضور الوسائطية الفكرية في هذا العرض.      
إنَّ المسرح وسيط يعرض وسائط مُتعددة ومُختلفة ومنها وسيط الإشهار، وبأنواعهِ الثلاث في عرض (مسطرة)، إذ تنتصب أسفل خشبة المسرح شاشة افتراضية خلفية بوصفها احد الوسائط المُستخدمة فيهِ، حيثُ يتم من خلالها بث وصلات فيديوية مُتعددة وصور ثابتة كتجسيد لتلكَ الحضور، فمع بداية العرض تُعرض صورة تُمثل رواق طويل لإحدى المُعتقلات تتوزع بين جانبيهِ أبواب الزنزانات فيما تستخدم كُلّ شخصية من شخوص العرض قطعة ديكورية تُمثل إطاراً لباب افتراضي هوَ ذاتهُ باب الزنزانة:
المجنون: وحدهُ يعرفُ جميع الأبواب.
الكاتب: ربما.. ربما لأنّهُ مقطوعٌ من شجرة.. العبدُ أمام الباب يشعرُ بالزهو.. فمُشكلةُ باب الحديد أنهُ يملكُ عائلة.
وهُنا تتعدد الوسائط المُستخدمة والمُتمثلة بوسيط الصورة الدالة على السجن، فضلاً عن وسيط القطعة الديكورية (إطار الباب الافتراضي)، إذ يتَشَكل المجال الوسائطي للعرض من ثلاثة أبعاد هي (جسد المُمثل/ اطار الباب الافتراضي/ صورة رواق المُعتقل).
مما يُشير إلى اهتمام صُناع العرض بالوسائطية وتأكيد حضورها فيهِ عبرَ مُختلف أنواع الوسائطية المُستخدمةِ
فيهِ.
إذ يُصارُ إلى استخدام وسائط الإضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية وتحولاتها اللونية والسمعية للتعبير عن المراحل التاريخية لتَبدُل نظام الحُكم في العراق عبرَ وسيط (صفارة الإنذار) ليُصار إلى تغيير تلكَ الأنظمة في العراق، ليتم تجسيد ذلكَ عبرَ بث وصلة فيديوية بوصفها وسيطاً تُمثل تلكَ التحولات السياسية العراقية، لتنتهي تلكَ الوصلة بوجود وسيط النص البديل Subtitle الذي يبث عبرَ الشاشة الافتراضية الخلفية عام 1979.
لقد استفاد العرض من وسيط السينما استفادةً قُصوى مما يوفرهُ هذا الوسيط من امكانيات مُتاحة تُيح إعادة فهم العرض.
التمثيل: اتسم الاداء التمثيلي بالرشاقة العالية والانضباط اذ كان كِلا المؤدين (أحمد/ أزهر) في أحسن حالاتهما الأدائيّة بالتساوق مع أداء (الآخر) المؤدي أحمد كريم.
الاخراج: المخرج عارف بأدواتهِ الإخراجية، وهذا ما انعكس في التحكم منضبط بايقاع العرض، ولعلَ مشهد (الذبابة) وباقي المشاهد يفصح عن الامكانيات الواضحة لدى (نور الدين مازن) وتمكنهِ من عُدتهِ الإخراجيَّة.
أخيراً أقول، هنيئاً للديوانية بصُناع عرض “مسطرة” الذي يومئ لنا ويُشير وبكل وضوح بأن مسرحنا العراقي بعافية في ظل وجود هؤلاء المسرحيين العراقيين الشباب الذين أزعم أنّهم سيُشكلونَ رقماً صعباً في الدورات المقبلة من هذا المهرجان وباقي المهرجانات امتداداً لصنيع مُعلمهم المسرحي الحاضر الغائب (سعد هدابي).