التلقّي الشعريّ

ثقافة 2023/12/31
...

  محمد صابر عبيد


التلقي الشعري ضرورة فنيّة وجماليّة وثقافيّة لديمومة الشعر وسبب لاستمراريته في الوجود، وهو ما يجب مقاربته بقوة ووضوح لأجل فهم العلاقة بين النصّ الشعري ومجتمع القراءة الشعري من الناحية النظرية والإجرائيّة، ويمكن القول في هذا الصدد إن علاقة الشعر بالمتلقي تنجز عن طريقين متلاحمين ومتداخلين: الأول: التحقق التشكيليّ للنوع الشعري.
الثاني: القبول القرائيّ في ضوء المعطى الحضاري.
وإذا كانت قصيدة الوزن: تحتاج إلى معرفة جيّدة بالعروض مع ذخيرة لغويّة مناسبة حتى يتحقّق الشرط الأوّل من شرطي العلاقة في نظريّة التلقّي الشعريّ.
فإنّ قصيدة التفعيلة: تغيّرَ فيها مفهوم الشعر ووظيفته على مستوى النموذج التشكيليّ والمرجعيّة الثقافيّة والاجتماعيّة، وما التغيير الإيقاعيّ سوى مظهر شكليّ من مظاهر الانتقال من البيت إلى التفعيلة، والعمل في دائرة إيقاعيّة أضيق ممّا يضاعف من صعوبتها قياساً بكتابة قصيدة الوزن.
أمّا قصيدة النثر: فتمثّل أصعب الأنواع الشعريّة وتحتاج إلى جهد مضنٍ وكفاح تشكيليّ كبير من أجل تحقيق الشرط الأوّل، بلا سند إيقاعيّ وزنيّ ظاهر وذلك لأنّ إيقاع قصيدة النثر غامض وملتبس فهي القصيدة الأصعب والأندر، ولا ينبغي أن تُحاكَم على وفق الضوابط الإيقاعيّة المستوردة من بنك الذاكرة متجاوزةً قروناً من الزمن، ومتحوّلةً من مجتمع البادية إلى مجتمع العولمة، بل البحث عن قيم إيقاعيّة جديدة يمكن أن تكون عابرة وهامشيّة وغير منظورة لكنّها فاعلة على صعيد كسب المنطق الشعريّ.
الرهان على شعريّة الكلام وإيقاعيّته النوعيّة المستمدّة من قدرتها على الإدهاش والتأثير العميق في مستقبلات المتلقي، وعلينا أن نغادر الثقافة الإيقاعيّة المهيمنة القائمة على مرجعيّة (الوزن الشعريّ) مع صعوبة ذلك بسبب حضورها الضاغط في ميدان الذائقة العربيّة على مدى قرون، يصعب بإزائها استبدالَ أذنٍ مضى على نحتها كلّ هذا الزمن الواقف.
الكتابة الشعريّة الحديثة هي كتابة حرّة، فلكلّ شخص الحريّة الكاملة في كتابة ما يريد من دون إرغام الآخر المتلقّي على القبول والاعتراف.
وإذا كان الاحتماء باللغة في هيبتها القَبَليّة هي وسيلة المفهوم القديم للشعر في قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة، فإنّ اختراق هذه اللغة وتفكيكها هي وسيلة قصيدة النثر في الوصول إلى المتلقي، ولا يتمّ هذا الاختراق إلّا بعد إدراك اللغة ومعرفتها واحتوائها في كينونتها المعجميّة أولاً، ثمّ الصرفيّة والبلاغيّة والصوتيّة والدلاليّة، والسعي الحثيث والجادّ والعارف نحو التقاط مفاتيحها والهيمنة على حراكها الداخليّ بعد استيعاب معطيات العصر وتمثّل قوانينه ومدنيّته وعولمته.
لا بُدّ أولاً من ضبط المهارات اللغويّة الأساسيّة تماماً كي يسهُل اختراقها بعد المعرفة الكليّة لآليّات عملها وسُبل اشتغالها، فبوسع المرء أن يتجاوز ما يعرف ولا يمكنه اختراق ما يجهل لأنّ المجهول يبقى مُخيفاً ومحميّاً بغموضه، المجهول غريب ومعتم ومحجوب وقليل الضوء على نحو يعيق جرأة مغامرة اقتحامه إلّا عند الضرورات.
تنطوي اللغة لسانيّاً وسيميائيّاً على شبكة هائلة من الألغام الكلاميّة لا يدركها إلّا الخبير في وضعها وآليّة عملها وطبيعة نتاجها، ولعلّ أهمّ سرّ من أسرارها في هذا المجال أنّها لا تعمل إلّا بين يدي هذا الخبير، في حين تكون طبيعيّة بلا ألغام في حركتها العامّة على ألسنة الناس حين يرومون التفاهم بها وإنجاز معاملاتهم اليوميّة التقليديّة، بمعنى أنّها تشتغل على طبقة ألغامها في حالات معيّنة أبرزها (الحالة الشعريّة) إذ تنتقل اللغة بكيانها ووضعها كاملاً نحو فضاء آخر واستراتيجيّة عمل أخرى، تغادر فيها عتبة العفويّة والمباشرة والمستوى الدونيّ البسيط من تحقيق درجة التفاهم السطحيّ العابر بين البشر، وهنا تكشف عن طبقة ألغامها فتنشط ميكانيزماتها وتتهيّأ للعمل على وفق قوانين جديدة وَفِقْهٍ جديد.
هذه اللغة التي يمكن تسميتها (اللغة الشعريّة) تنحرف وتنزاح كثيراً وبعيداً وعميقاً عن اللغة العاديّة الطبيعيّة، فهي إذن لغة أخرى تماماً، تنطلق من أرض اللغة الأم (الطبيعيّة) لكنّها لا تعود إليها، وذلك لأنّها تبدأ بتكوين طبقاتها استناداً إلى معطيات التخييل وعوالمه غير المحدودة بحيث لا تبقى صلتها باللغة الأم سوى الطبقة اللسانيّة الدنيا، وهي تستجيب لمنطقٍ آخر وفِقْهٍ آخر يرسم معالم اشتغالها في منطقة قصيدة النثر.
اللغة الشعريّة لغةٌ ملغومةٌ ومفخّخةٌ على شكلِ لُغمٍ كامنٍ لا يمكن تفكيكه من دون إتقان آليّته في العمل، الخطأ هنا قاتل مثل الخطأ النحويّ (اللحن) في التعبير اللغويّ، إذ على الرغم من أنّه قد تتعدّد طرق نزع فتيل اللغم في اللغة الشعريّة بتعدّد آليّات العمل وسبل الخبرة والمعرفة، غير أنّ خطورة اللغم تبقى حاضرة حتى ما بعد إبطال احتمال انفجار اللغة وموت نصّها، حين تبدأ فعاليّة القراءة والتحليل والتأويل في سياقات مختلفة تقوم على المنهجيّة والخبرة والذوق والحساسيّة والمزاج النقديّ المتمكّن.
لا فرق بين اللُغم الميكانيكيّ الذي قد يقتل مئات البشر واللُغم اللغويّ الذي يهشّم الوعي الثقافيّ للأمة حين ينفجر بلا ضوابط، إذ إنّ فكرة التفجير اللُغميّ هي فكرة عولميّة في الأساس تهدف إلى تحطيم البنى التقليديّة الكلاسيكيّة القديمة، وبناء وعي حديث للأشياء يحاكي منجزات الحداثة العولميّة في أعلى درجاتها، لتكون قصيدة النثر هي النموذج الأمثل الذي بوسعه أن يستجيب للثورة العولميّة الحداثيّة في مجتمع يتغيّر بسرعة فائقة تغييراً جذرياً، يحتاج إلى قدر عالٍ من التمثّل والاستيعاب كي يكون بوسعه مباشرة الفعل الفنيّ في وسط تتحكّم فيه رمال متحرّكة إليكترونيّة لا تنتظر أحداً.