بغداد: نوارة محمد
الاحتفاء بالكتاب ومؤلفاتهم ظاهرة ثقافية تُشبع الشغف والفضول، لا سيما أن المعنى الأساسي السامي وراء فكرة إقامة حفلات توقيع الكتب إلى الجانب الترويجي، هي خلق فضاء واسع للتعبير والنقاش، وللحوار، فكيف يا تُرى يستعد الكُتاب لهذا اللقاء؟
يعتقد البعض أن هذه الفعاليات هي واحدة من أروع الطقوس التي يشعر بها صاحب المؤلف، إذ تعد تجسيدا لفكرة التواصل المباشر بينه والقارئ، وهي أيضا تمثيلا رمزيا لعملية الكتابة نفسها، يعبّر عن ذلك الناقد والروائي والباحث في الانثروبولوجيا الدكتور محمد غازي الأخرس. ويقول إن «فعالية توقيع المؤلف لكتابه وتدوين إهداء إلى القارئ واحدة من أجمل وأروع الفعاليات والطقوس التي عرفتها صناعة الثقافة». ويعتقد أنها تعبير بالغ الدلالة عن فكرة التواصل بين الكاتب والقارئ، وأيضا بين المؤسسة المنتجة للكتاب والمستهلك، على أن التواصل بين الكاتب والقارئ هي الفكرة الأهم، كونها تمثيلا رمزيا لعملية الكتابة نفسها فهي، أي الكتابة، لا يمكن أن توجد من دون وجود قارئ.
ويتابع الاخرس الذي صدر له كتاب (المگاريد)، و (دفاتر خردة فروش)، و(قصخون الغرام)، و(خريف المثقف في العراق): يبدو أن توقيع الكتاب، وكأنه اعتراف ضمني بتكامل الفعاليتين، القراءة والكتابة.
ويرى تاريخيا، فإن الظاهرة ليست حديثة، وإن كانت قد قننت وتحولت إلى تقليد حديث. ويتصور الأخرس أن بوادرها نشأت من تأليف نوع من الكتب قديما، فقد كان المؤلفون أحيانا يؤلفون تحقيقا لطلب أمراء أو خلفاء أو وجهاء، وكان المؤلفون يذكرون ذلك في مقدمات كتبهم، وهو بمثابة إهداء يفسر سبب الكتابة.
عدا هذا، كما يضيف أن «الفعالية نفسها ذات جانب سيكولوجي واجتماعي، فهي تكسر الحاجز بين القارئ والكاتب وتقرّب الأخير من الأول، ما يسهم بتحويل الكاتب إلى شخصية فعلية من لحم ودم، بعد أن كان صورة افتراضية. فضلا عن ذلك، حفلات توقيع الكتب الرائجة حاليا ذات جانب تجاري مهم جدا من باب أنها تسهم في ترويج القراءة، وتوسيع دائرة الكتاب بوصفه منتجا أو سلعة.»
ويؤكد: شخصياً، لا أتمكن من أن أصف شعوري بأول توقيع وضعته على كتاب لي، وكان ذلك عام 2011 بعد صدور كتابي (خريف المثقف)، كان أحد الكتبيين يوقفني قربه في شارع المتنبي لأوقع للقراء. كانت فعالية شعبية غير رسمية رائعة، تكررت مع كتاب (المكاريد) و(دفاتر خردة فروش)، ثم أصبح حفل توقيع الكتاب أكثر تنظيمًا في السنوات اللاحقة، خصوصا في معارض الكتاب ببغداد.
يشعر بعضهم في أن تحديد موعد مع الجمهور أمر في غاية الأهمية، هذه الفكرة تتعدى كونها توقيعا معنيا بسلوك وقتي يقدم عليه المرء، لا بل هو تيار وعي، بالإمكان أن يغير من حياة الكاتب والشخص الآخر المتلقي الذي يرغب باقتناء الكتاب.. هكذا يعبر الشاعر والمسرحي الدكتور أحمد ضياء قائلا: لحظة يختلط فيها الخوف والفرح والقلق، لحظة يمكن أن تكون ضمن سلوك طويل عالق في الذاكرة، كلما هممت في تحديد موعد ينتابني موقف ما، ألا وهو كيف سيكون لقائي بشخوص سأعرف بعضهم وسيعرفني البعض الآخر.
ويؤمن ضياء في أن جملة اللقاءات في حفلات التوقيع تكون حقيقة ونابعة من إخلاص جميل، التوقيع ليس معنيًا بسلوك وقتي يقدم عليه المرء، أجده هو تيار وعي بالإمكان أن يغير من حياة الكاتب والشخص الآخر المتلقي الذي يرغب باقتناء الكتاب.
ويتابع: الرسالة التي يريد الكاتب إيصالها ستكون عبر حروف متعلقة بدءًا بالإهداء متنقلاً في ما بعد إلى اثارة العلاقة والضحكة والرفقة، في توقيع الكتاب مغامرة معرفية أخرى ألا وهي من يرغب بأن يقتني كتابك، هو الذي سيقرأه بمحبة الاعتناء بك، أنظر أن الشخص القادم لي، قطع العديد من الكيلو مترات متعنياً لسماع نص، لمحاورة ما، لمعرفة مختلفة، لجملة ربما تغير من بواطن تفكيره، الشخص القادم له الحق، في طرح أسئلة تعبر عن وجدانه، ولك أن تجيب عنها بضمير العارف بفحوى النص.
ويرى أخرون أن لحظة الوقوف أمام الجمهور ليست سوى انعكاس لحلم الطفولة، الذي سرعان ما تحول حقيقة بعد أن أصبح هاجساً وقضية، بحسب الشاعرة إيمان الوائلي، التي تحدثت عن حلمها الذي تحول إلى واقع، كما تقول: منذ طفولتي وأنا أمثّل دور الشاعرة، وكثيراً ما أقفُ أمام المرآة وأقرأ القصائد، التي أحفظها وأحيانا كثيرة ارتجل أحاديث بسيناريوهات مختلفة مع أشخاص من صنع خيالي. وحينما صار الشعر هاجسا وقضية وصرت أبحث عمَّا يسمو بالكلمة ويضعها في مكانها الصحيح . فكان هم الكتابة يلازمني وأعني المعنى والفكرة والجدوى، اذ تعودت أن ألتقط الكثير مما يستوقف حواسي وأحفظه في درج ذاكرتي ، كما أن للقراءات الأولى أثرًا كبيرا في ذلك.
وفي سياق آخر يّعدُّ بعض الكُتاب حفل التوقيع فرصة للقاء الأصدقاء وغير الأصدقاء. تقول الروائية والكاتبة سارة الصّراف: أقمتُ العديد من حفلات التوقيع، لا سيما أن جمهوري منتشر في عموم الوطن العربي من العراقيين المغتربين، وكان الدافع الأكبر دائما هو حُب لقاء الناس، وكنتُ دائما أحرص على الاستمتاع بهذه اللحظات، هذا الشغف الذي أراه في عيون القُراء من جميع الأجيال أمرًا يّضعني أمام مسؤولية كبيرة.»
وتتابع أن «هذا الاهتمام بالمشهد الثقافي الذي نشهده في الآونة الأخيرة، لا سيما مع الثورة المعلوماتية، التي اتاحت لنا تقليص المسافة بين الكاتب وقُرّائه وجمهوره النخبوي والعام.
ومن جانبه، يقول الكاتب والباحث الدكتور عماد جاسم، الذي صدر له كتاب الهوية المسيحية في الرواية العراقية، وكتاب الدقيق الأحمر مع مساهمته في كتاب الرثاثة في العراق أنَّ «هناك رهبةْ تنتابه كلما التقى واحدًا من قُراءه».
ويرى أن هذه المحافل الثقافية تجسد حلقة الوصل بين الكاتب وقُرائه، كما يقول: توقيع الكتاب حلقة ما بين القارئ والكاتب، لا سيما أن الانطباعات، التي يعُبر عنها القُرّاء من الجمهور إلا نخبوي قد أن تكون مهمة أكثر من آراء النقدية، تسهم هذه المحافل الثقافية بشكل أو بآخر بتعزيز العلاقة بين الكاتب وجمهوره.
ويضيف أنني «استعد لهذه اللقاءات التي تغلب عليها طابع الشعور المعنوي بالنسبة، وهي تخلق حميمية ما بين الكاتب والقُراء، والأصدقاء».