خسرنا كثيراً فلا نخسر كلَّ شيء

ثقافة 2024/01/08
...

  ياسين طه حافظ

كان لزاماً أن اختار هذا العنوان وأنا أتحدث عن شاعر لم يدرس دراسة جادة، لا بمنظور لساني وهذا مهم بالنسبة لـه، ولا بمنظور نقدي أدبي. كانت النتيجة أن فاتنا منه الكثير النافع.لم يكن العجّاج راجزاً عابراً، في الشعر العربي رجز كثير وكان هو ذا شأن. مؤسف أن يكون شاغل من عرّف به أو بشعره، هو من أي قبيلة، لماذا سميّ العجّاج، ومن مدح ومن ذم.. نحن اليوم نقرأ لشاعر ظاهرة، يكتب أراجيز، والرجز والأرجوزة ليسا جديدين على الشعر العربي. هو فن شعري معروف، ولكنه كان يؤتى ببيتين أو ثلاثة يرتجزها الشاعر «إذا خاصم أو شاتم أو فاخر..» بحسب ما قال ابن قتيبة. وكثير من الجاهليين كانوا يرتجزون في «متح الماء عند السقي أو حداء الإبل حين الرحيل» وهو بعض من شؤون حياتهم اليوميَّة.
ومن أسباب هون الرجز لدى العاملين في الشعر ودرسه، أنّه «يقال بلا معاناة ولا مكايدة ولا إجالة فكر ولا استعانة». وكأي فن، دائماً ما ينهض بنوعٍ منه ومستواه أفراد بارزون من حملته، مَنْ تنميهم الظروف والعلوم وما نسميه اليوم بالتطور الثقافي أو الفني. وهنا يُذكَر الأغلب العجلي، وهو راجز اسلامي، اطال الرجز وقرّبه من القصيد، بل هو أول من «شبّه الرجز بالقصيد.. «لكن العجّاج مضى أبعد منه فأطال أشطار أراجيزه حتى جاوزت المئة والمئتين، يقول ابن قتيبة، «وهو أول من طوّل الرجز وجعله يشبه القصيد..». يقول ابن رشيق. لا يعنينا عدد الاشطار وإن كان تطوراً باتجاه القصيد.. القصيدة اليوم ليست بطولها ولكن بجودة عبارتها وما حملت من معان. ما أردت الوصول اليه هو التطور الفني الذي تحقق على يد العجاج. فأولاً هو رفع من قيمة الرجز، المستهان به، (مشطور الرجز..)  وثانياً، وهو الأهم، صيَّرَ متطوعات الرجز القصار المرتجلة قصائد، فرفع منزلة الرجز إلى منزلة الشعر المعترف به.
مقدمة الديوان، التي كتبها محققُها الدكتور عزة حسن، زاخرة بما هو مهم عنه.
أول ما يلفت نظرنا إلى شخصية العجّاج، أنّه ذو شخصية لها سرها المضمر. هو يبدو رجازاً مادحاً ولكن في سلوكه ما يشير إلى ما وراء ذلك. كان الرجل يواصل الناس من معارفه ويلتقي بأهل الصنعة في البصرة، ولكنه يؤثر السلامة والدعة ويجنح للعزلة بعد سد الحاجة «كن في اقاصيها وخلّ عنك وعنهم..» حسب وصية أبي هريرة له محذراً ممن سيأتونه.. هو كان يمتدح بني أمية ويأخذ اعطياته ويعتزل العالم حتى تنفد أو تكاد فيسعى لأعطية تُسعفه. نجد هذه المعلومات متواترة عند ابن قتيبة والجاحظ وابن رشيق، كل يذكر شيئاً منها أو يشير اليه، وذكر بعضاً منها متفضلاً علينا وعلى الدرس الأدبي محقق ديوانه.
شخصياً منذ بضع سنوات، أحمل الديوان يوماً، أقرا صفحات فيتعبني التقعر في اللغة وقديم العبارة ومنسيّ أو مجهول اللفظ، فأعدل عن اكمال القراءة وأعيد الديوان إلى مكانه. لا أدري ما الذي دعاني هذه المرة، وأي هاتف أو أية حاجة، فأنا اقرأ بامعان وامتاع واكتشف عينات مما يستحق اشارة الى ما يجب أن يكون موضع الاهتمام.
والآن ثمة ما يحرّضني لأن اقول بما انتبهت له واشير إلى ما فاتني من قبل. بايجاز هو شاعر له شخصيته العامة متميز بطبعه البشري، وأن له في الشعر ما يستوقف العابر. موجز فضله، أولاً هو أنه الأبرز في تطوير الرجز أو الأرجوزة، وهي شكل شعري، إلى قصيد. وقال ما يستحسن في بحر لم يكن النظم فيه محموداً، حتى سُمّي لسهولته بـ «مطية الشعراء». هو حوّله إلى ايقاع جميل، مريح، سهل، تاماً أو مشطوراً، صار له من بعد حظوة لدى الشعراء. المسألة الأخرى، أن هذا الرجل له قدرته الخاصة على التصوير. فيرى الأحوال والأحداث من زوايا هو يختارها. أيضاً، له عبارته، وذخيرة لا تنفد من ألفاظ طارئة وموغلة في القدم. لغته هذه جعلته واضحاً بين عشرات الشعراء حوله. لم يكن رجازاً بسيطاً، قراءتنا الأولى له كانت عجلةً بسيطة. فما كان لنا تمعّن في قوله، ولا كان لنا صبر على ما يقول. حتى مضامين مديحه، والمديح معروف المضامين، غير مكررة وإن كانت. ففيها غنى وابتعاد مما على الألسن. إن تشابهت معانيه، اختلفت عبارته ولفظه غير المتوقع والمسموع. سآتيكم بمثال من شعره، أو أراجيزه. هنا مقطوعة من متوالية رسمت قصيداً، ولِنَرَ كم زاخرة عبارته بالاشارات وكم خصبة منوعة حمولتها، وكم هي توغل في تاريخ اللغة، الذي هو تاريخ أمة ومجتمعات:
أُنيخَ «مسحولٌ» مع الصُبّارِ
ملالة المأسورِ للِاسارِ
ولو يقرُّ كان ذا وقرارِ
.....
.....
فُرفورُ ساجٍ في دُجيلِ جارِ
مخوِّطاً جاء من الأطرارِ
واضح اختلاف البداية. مسحول هذا هو جَمَلُه وقد أُنيخَ طويلاً وما اعتاد ركوداً وهو النشيط، صاحبه أطال المكوث- لكنه سحب المعاناة لمسحول «ملالة المأسورِ للإسارِ»، قُيِّد عن الحركة- عليه أن ينتظر ويستقر، إلى أن اركبه. الآن لينتظر، ويستقر «نظارِ أن أركبه نظارِ». يقولُ نظارِ، ينتظر، ما أجملها من لفظةٍ نظارِ هذهِ!
شبه جملهُ بالسفين يتخذ طريقه باتجاه وقفته أو وصوله. هو يمتد في المفازة كالحبل:
فُرفورُ ساجٍ في دُجيلِ جارِ
مخوِّطاً جاء من الأطرارِ
قصَدْنا وعورة لفظه، لكن صبراً، فهذا السفين، الفرفور، الذي ينساب مثل حبل «مخوِّطاً» على الرمال البعيدة، يصل «اهله» آتياً من «الاطرار».
كلمة «الاطرار» تستحق منا وقفة، فهي تعني النواحي ومفردها «طُرّة» ونحن في عامية الجنوب نقول «طِرَّة» بكسر الطاء، وهي الأرض الخلاء أو الفضاء القفر وطرَّ الجالسين، شقّ طريقه بينهم. وطرَّ المجلس، اخترقه ومرّ بين جُلّاسه. ويقول العوام في التهديد: «اطرّك طرْ..» بمعنى أشقك نصفين..
هذه ثروة لغوية ممتعة، نعيد اتصالنا التاريخي، بما نظنها امة مضت، ولعلنا نرى فرصة كلام ممتع في قوله بصف رحلته:
داناهُ تضبيبٌ وعضَّ قارِ
هنا تاريخ لغة وتطور الفاظ وتغير استعمالاتها. لأتوقف هنا.. وأقول كانت ثروة لغوية وثقافية نافعة ولها مذاقها، بعض ما فيها لا يحسن خسرانه. خسرنا كثيرا من تراثنا فلا نخسر كلَّ شيء!