تاريخ سينما الأرض المحتلة

ثقافة 2024/01/08
...

  وارد بدر السالم
في كتاب (تأريخ السينما في الأرض المحتلة وأثرها على المجتمع) الذي ترجمه د. صادق عبد المطلب وصدر عن مؤسسة ثائر العصامي للطباعة والنشر- بغداد - 2023 يرجعنا المؤلف الى عام 1912 وبدايات السينما الإسرائيلية ومع أول فيلم محلي عن اسرائيل بتصوير AKIVA ARIE قبل تصوير الفيلم الوثائقي عن الجنرال اللنبي الذي دخل القدس على رأس قواته.
هذا الكتاب يوثق للسينما الإسرائيلية منذ بداياتها لوجود الحاجة الإعلامية البصرية لتكتلات بشرية هجينة، وإقناعها بواقع الحال الذي آلت اليه منذ عام 1948، ومع التاريخ القديم نسبياً للمحاولات السينمائية، تقاطعت وتضافرت جهود المنتجين والمخرجين الإسرائيليين في تقديم الأثر السياسي والتاريخي، كمحاولة خادعة للبقاء الجغرافي على أرض فلسطين، تحت مسمى إسرائيل، وبما يسمى بالأرض الموعودة، مع ملاحظة التنوع السكاني الشرقي والغربي الهجين، الذي شكّل تلك المنظومة الهجينة المحتلة لأرض فلسطين. كما يحدث عادة مع الكيانات التي تصور بقاءها المضطهد بشتى الصور الإعلامية، سواء باستنجادها بالوثائقيات المختلفة، أم على مقاربات فيلمية واقعية، مستندة على عوامل ساندة ومساعدة، كما تراها الآلة الصهيونية، وهي تمنح الفيلم قيمة بَصَرية وسمعية وتصرف عليه الأموال الطائلة، لكي يكون داعماً على بقائها الشاذ. كما حصل مع فيلم " كانوا عشرة- 1961" الناطق باللغة العبرية، بتصوير عذاب ومعاناة اليهود في أرض اسرائيل. فكان الفيلم بداية للإنتاج المنظم للأفلام الطويلة.
ضمن هذا المشروع الفيلمي حاولت المؤسسة الصهيونية الإعلامية الدخول الى السينما العالمية، عبر المهرجانات العالمية المعروفة. وقد يكون فاتحة للإنتاج السينمائي الذي يوليه الكيان الصهيوني الكثير من اهتماماته، ولقد تحققت له بعض الأفلام التي لفتت الأنظار. أو في الأقل تؤكد حضورها الدرامي من منافذ المهرجان أو غيره من المهرجانات العالمية، في معالجات أغلبها اجتماعي يأخذ ثيماته من الواقع المتنافر في مشكلات المجتمع المحبط ايديولوجياً؛ مختلط الأديان والأفكار والاتجاهات بين اليمين واليسار.
وباستعراض بعض الأفلام الإسرائيلية ابتداء من الستينيات والسبعينيات، نجد أن هناك مشكلات فعلية حالت من دون تطوير السينما هناك، ولعل أبرز ما يمكن تأشيره كونها كانت " مستندة على أسس مغلوطة " بسبب الصراع الذي يفصل بين السفاراد- اليهود الشرقيين- وبين الأشكناز- اليهود الغربيين" وهذه إشكالية حقيقية من جهة مجتمعية واقعية، ومن جهة أخرى، سياسية - رقابية هو أن السينما "تتحاشى أن تتناول محظورات المجتمع الاسرائيلي.. والتي تخص الروابط الدينية للدولة، الأساطير وتأثيرها على الحياة اليومية، القضية الإسرائيلية العربية، المشكلات الجنسية أو البيروقراطية المهيمنة.." وفي المجمل العام فإن سر بقاء الكيان الصهيوني هو حرصهم على ضم المجتمع الهجين في بوتقة الانتماء الديني، ومن ثم الوطني العام ومن اي منبع، ويتوضح ذلك في التحليل النقدي للأفلام التي أنتجتها اسرائيل عبر أعوام طويلة، فالسينما " اصبحت عنصراً مهماً للتحليل" كـ " مرآة تعكس جذور أصل الإنسان أكثر مما تعكس ضروريات الوقائع الممارَسة والخيالية.." وبالتالي فإن موضوعات السينما وثيماتها ومضامينها المباشرة وغير المباشرة، تعطي إضاءات كثيرة عن الموقف الاجتماعي، منها الصراع الحضاري والعرقي والوجود التاريخي والثقافة المحلية بين اليهود الشرقيين والغربيين، من عادات وتقاليد وأسس اجتماعية متعددة، تختلف بين الاثنين. فالسينما عندما تعرض مثل هذه المشكلات فإنها تحلل السلوكيات الجمعية لمجموعات غير متجانسة، من حيث الوجود التاريخي لها على أرض ليست لها، فالمجتمع الإسرائيلي (يعاني من عدة مشكلات مشتركة أو متناقضة، يمكن أن تكون مؤشراً أو رد فعل مضاد لواقع اجتماعي في طريق التكوين..) لهذا فالعمل في المشروع السينمائي الاسرائيلي، منذ بداياته، واجهته هذه المشكلة الحقيقية، ولا يمكنه أن يتخلص منها، فالصراع بين السفاراد والأشكناز ليس صراعاً مؤقتاً، بل هو صراع زمني قائم على اعتبارات مبدئية وأولية في استمكان الوجود الحقيقي لكليهما على (أرض الميعاد) ومن ثم فأن هيمنة هذه الموضوعة على السينما، جعلت من التنظيم الحكومي خلال العشرين سنة الأخيرة أن يتسارع الى تطوير عملي وفعلي للسينما.
المشكلة الأخرى وهي واقعية جداً، بأن اليهود على مختلف مللهم وانتماءاتهم الدينية والروحية، والمتزمتين منهم، يعدّون اللغة العبرية هي اللغة القديمة التي يتعاطونها في يومياتهم، وأن اللغات الأجنبية الأخرى، دخيلة على واقعهم الروحي والديني، ومثل هذه التناقضات التي تجعل من المجتمع هجيناً وغير ذي صلات أخلاقية وإنسانية،ومن السينما وجهاً واضحاً لمثل هذا التناقض الصارخ. فكان الاعتماد على الأفلام الوثائقية في البدايات سهلاً لا يحتاج الى اقتصاد ورؤية إخراجية وميزانيات ضخمة، اما اللغوي فهو مشكلة رئيسة في التلقي الاجتماعي العام، فلا يمكن أن يُنتج فيلم بعدد من اللغات، لذلك كانت المواجهة بين الشعب المختلط، بشقيه السفاراد والأشكناز، ومع صنّاع السينما في القطاعين الخاص والحكومي في أزمة واقعية، فاللغة هوية وطنية، والإسرائيليون لغات ولهجات، وحتى ما بعد الستينيات والسبعينيات، خُصصت أفلام للجمهور الإسرائيلي باللغة العبرية لتجاوز محنة الهوية، لكنها لم تلق الرواج المطلوب ولا الإقبال المنشود، بل حتى الإنتاج المشترك مع صنّاع عالميين في فرنسا وألمانيا وأميركا، لم يكن ذا أهمية لغوية وحضارية، تشير الى تاريخية البقاء على أرض فلسطين، لا سيما فيلم " الأكزود" لمخرجه أوتو بريمنجر الذي خلط الأسلوب الهوليوودي بأسطورة الولادة الاسرائيلية، وفيلم " أعطوني عشرة رجال يائسين" لبيير زيمر الذي يستعرض تاريخ مجموعة حاولوا تأسيس "كبوتز" في صحراء النقب، بالرغم من الأخطار والاغتيالات التي يقوم بها " العرب المخربون" وهكذا نجد مع سلسلة أفلام مشتركة، تحاول ترميم ذاكرة اليهود المتمسكين بلغتهم العبرية، بموازاة الأشكناز المدافعين عن لغاتهم الغربية. لكن السينما الإسرائيلية لم تنجح بأن تجعل من اللغة العبرية فارقة في التلقي الإسرائيلي العام، حتى مع اللغة الفيلمية العبرية، لم تستطع أن تؤسس لها حتمية سينمائية، ووجوداً فنياً معتبراً.