طارق إمام: كلما رأيتُ تائهًا ظننتُه أنا
زهير كريم
في (نقد العقل المحض) يتحدث كانط عن الزمن ليس بوصفه مسكة المصارع، التي يعلن الحكم فيها هزيمة الخصم، ولا يعني كذلك مشهد رفع اليد إشارة للانتصار، بل هو بديهية، فكرة مسبقة تتيح لنا أن نفهم معنى التجربة، حاضنا للحكاية، حكايتنا وحكاية العالم. وينطبق الأمر على المكان، فهما الزمان والمكان عنصران في شبكة تجاربنا، أما الهزيمة فهي الوجه الآخر للنصر. وفي النهاية نحن لا نعيش في الواقع- كما استدعى طارق امام في العتبة النصية- إنما نزوره. مجرد ضيوف خرجنا من الحلم لنعود إليه.
والقراءة المتأنية- وهذا ما ينبغي فعله- لنصوص مثل التي ضمها كتاب طارق إمام، في كتابة (أقاصيص أقصر من عمر أبطالها) الصادر قبل أيام عن دار الشروق بالقاهرة، تكشف لنا هذا الانصهار بين خبرتنا وعلاقتها بالمدينة من جهة (المكان) وأعمارنا الذي هو تمثيل للزمن الذي يمنحنا الغطرسة، ثم ينبح في وجوهنا كما لو أن الغرور جهلٌ، بالقدر نفسه لا يكون التواضع معرفة.
ويظهر من خلال النصوص (السردية بشكل خاص) أن كل شخصية هي شظية من الزمن، استقرت في لحظة قبض عليها الرواة المتعددون الذين يحملون عبء العناوين، او الراوي الواحد المتعدد في عناوين كثيرة.
وهذه اللحظة هي قصاصة الخبرة التي سعى الصوت السارد للصقها من أجل صورة مفترضة الكمال، وهي في وجه آخر منها تمثيل للعلاقة بين الوجود بوصفه تجربة شخصية يشترك في تشييدها المكان والزمان، وبين العالم بوصفه فكرة تحضن الانسان لكونها مرآة لمصيره.
ومن المؤكد أن تفكير الساردين في الأقاصيص لم ينفصل عن فكرة الصراع مع الذات، أو اللغة على اعتبار أنهما، الذات البشرية واللغة مرتبطان ولا يمكن الفصل بينهما، فكل تفكير هو داخل اللغة، لهذا انتجت الشخصيات في صراعها مع فكرة وجودها لغتها، وأظهرت لنا أن طبيعة تفكير شخصية.
يقول السارد في أقصوصة في كل مكان خانته المدينة: رجلٌ عجوزٌ يقطعُ طريقَ الهمساتِ واللعاب، كأنه بنى بيتًا أخيرًا في تلك المسافة التي لن يقبل أبدًا أن تتقلَّص بين شفتين.
فاللغة هنا تتماهى مع صورة تظهر فيها يد الحكم وهو يرفع يد المنتصر، ويخفض يد المهزوم.
فكل مفردة هنا تعبر عن هذه اللقطة التراجيدية: رجل عجوز، يقطع، بيتا أخيرا، مسافة بين شفتين.
ولم أجد في كلام هيجل عن الحاجز بين الشعر والنثر سوى نوع من التعذيب للأجناس، استدعاء شروط لا تبدو جادة اطلاقا، فهو يضع السكين لتقطع الشعري عن النثري كما لو انه يعترف ضمنا أنهما جسدٌ واحد، فهو يضع النفعية شرطا للنثري، وتنزيه الشعري من الغائية، اذ ينبغي -حسب رأيه - على الشعر أن لا يضل في النثر.
وفي اعتقادي أن الغائية عندما تكون سؤالا، أو رضوخًا للتفكير أو تحريرًا للمخيلة أو تحقيقًا لمتعة تنطوي عليها جماليات النص، فهي تكسر الحدود وتطمس صورة الاجناس المعذبة داخل القفص. و(التيه) في اقاصيص طارق أمام لم يكن نوعا من المعاناة، بل ثراء، وميلا لفتح الممرات من أجل التداخل.
لقد تمازجا - الشعري والنثري- في النصوص جميعها باستثناء تلك الشذرات المنحازة للطبيعة الشعرية في الجزء من الكتاب، والمتعلق بـ (هايكو) المدينة.
لكن القارئ -أنا بوجه خاص- لم استطع أن افتح سجلا منفصلا، للشعري وآخر للنثري، لم ادرك خمول اللا غائية ولا حماسة النفعية.
فالكتاب في النهاية لا ينفصل عن رحلة طارق أمام في طريق الكتابة الملغومة التي تخلط بشكل تقريبي الأشكال.
إنها رحلة وعلى الرغم من سمة النص القصير فيها، لم يبتعد كثيرا عن منطقة اشتغاله، خيالات الطفولة، وتشكلات المدينة، خداعها التي تعرضه الواجهات لإخفاء الوجوه في طبقاتها العميقة، منسوجة في حبكة أقل تعقيدا، الشيء الذي ظهر في معظم نصوصه الطويلة.
في إحدى الأقاصيص، ترد جملة تحمل ملامح شخص مثيرة للأسى، يقف أمام صورة ممزقة فشل في ترتيب أجزائها.
جملة تنطوي عن نوع من التشظي في مرآة الزمن: كلما رأيتُ تائهًا في هذه المدينة، ظننتُه أنا.
هذا التركيب الذي يشبه ايماءة لصوت تراجيدي في آخر العرض، يبدو كما لو أنه تعبير – كذلك- عن الكوميديا البشرية التي تتعاضد في نسجها انفعالات طفل كان يحلم، استيقظ ليجد نفسه في صورة عجوز.
وبين الطفل والعجوز مسافة يشغلها رجل في ملصق حسب تعبيره في اقصوصة اخرى، نظرة تفحص المدينة التي لن تحتاج الى سؤال لنعرف أنها قطع صغيرة من لوحة مزقها مشرط الزمن.
يقول بورخيس في حوار اجرته معه أميليا باريلي.
في صحيفة “ذا نيويورك تايمز”.
بترجمة علي سعيد: أنا أحلمُ بمرآة.
أرى نفسي بقناع، أو أرى في المرآة شخص هو أنا، ولكن لا أستطيع التعرُّف على نفسي.
أصل إلى مكان، وأشعرُ بشعورِ أنني تائه وأن هذا كله فظيع.
المكان نفسه يبدو مثل أي مكان آخر. شخصيات طارق أمام في معظم النصوص كانت تقف أمام مرآة الزمن، تتعدد الوجوه والامكنة ولا يتعرف ايّ منهم على نفسه إلا من خلال القصاصات، إنهم ذوات متشظية تعيش في حلم داخل حلم فلا يدرك المسافة بين الحلمين او بين الحلم والواقع
لقد تفاجأت في الواقع باشتغال طارق إمام هذه المرة، أنا الذي تعودت في قراءة أعماله على السرود الطويلة، والحبكة المعقدة، لكن كتاب الأقاصيص رغم ذلك لم يبتعد كثيرا.
ما حصل أنها اقاصيص، شذرات او قصاصات سقطت من خزانة الذاكرة فتناثرت، وأنها مزيج من الشعر والنثر، ترتفع كف السرد مرة مثل تلويحة، ثم تنخفض لترتفع يد الشعر في تلويحة.
كتاب يقدم طارق إمام فيه محاولة لإفناء السرد داخل نسيجة الشعر.
وهو في الحالتين انتج نصوصا عن المدينة التي يولد فيها الناس شيوخا، لكني بشكل خاص توقفت طويلا عند نصوص بعينها، كانت الأقرب إلى نفسي وذائقتي دون التقليل من جماليات غيرها، اقصوصة (في كل مكان خانته المدينة) مثلا، أو سيرة مغمّضة، متطابقون، تلويحة، حصان بحجم اصبع، الارث، أحلام فندقية، واقصوصة (مسُوَّدة قصة موضوعهُا مسُوَّدة) وهو نصّ طالما صرح طارق أمام بفكرته، والتي تنطوي على شعور لا يغادر معظ الكتاب، النص الحلم الذي لا يكتمل، فكل كتاب جديد - حسب هذا التصور- ليس له سوى النقصان في النهاية أجد كتاب طارق أمام والذي لا ضرورة لتصنيفه، يشتمل على نصوص يختلط فيها الذاتي بالعام، حتى أنني لم أجد سببًا واضحًا يجعلني أفصل الكاتب عن العديد من رواته، كلهم وجه واحد- تقريبا. نصوص لا تحتفي سوى بعمرها القصير، لا أبطال فيها على الرغم من العنوان الذي يحاول تضليلنا بفكرة البطولة. نصوص عن الوجود بوصفة كرة العالم، نحن نلعب ونذهب، يأتي غيرنا ليلعب بينما الكرة تدور دائما بانتظار لاعبين جدد: يهدأ كلُّ شيء، وحين تُطلُّ من النافذة، تراها، تلفُّ وحدها بين قطيع جثث.
أما الموت في النصوص فلم يكن سوى صورة أخرى للحياة، أنه شريكها ونقيضها في الوقت ذاته، بل يظهر احيانا بوصفه تمرينا طويلا من أجل نزال ليس للخسارة فيه معنى ولا
الفوز.
نصوص عن الحلم الذي تهزمه أحلاما في داخله حتى تصير اللقطة طبقات او متاهة من الصور، عن الزمن والطفولة، الكتب والذكرى، الغياب والحضور، عن وجوهنا التي تتشابه عندما نكبر تاركين ملامحها الأصلية في مرايا الماضي الذي يشبه حصانا بحجم أصبع، عن الشيخوخة والولادة كل يوم، عن الماضي، أرقام المعادلة التي لا تحيلنا سوى الى الخطأ في الحساب، عن تبادل الأدوار بين الخارج والداخل، حين نكون ضيوفا على البيت وأصحابه في الوقت نفسه، عن الأسماء التي لم يخترها أحد، فتخسر نعمة الولادة، عن الحرب كذلك والسيقان المبتورة، عن الأمومة والأبوة، عن الدموع التي تحولت إلى فكرة في رأس الأب، أو تلك تحجرت على النحو الذي لم يمكن التقاطها كحجر نرميه في مهرجان انتصار مزيف، يظهر لنا في نظرة شخص في ملصق لا يفعل شيئًا في الحقيقة سوى محاولة تجميع المدينة في كتاب.
(روائي عرقي مقيم في بلجيكا)