الغراب

ثقافة 2024/01/09
...

   * نصير الشيخ


تشكل العلامات في الدراسات الحديثة حقلاً تداوليَّاً خصباً، وكتاب "الغراب ــ دراسات في النقد السيميائي" لمؤلفه  د. سمير الشيخ، والصادر عن دار أمل الجديدة بطبعته الأولى 2023. 

مساحة اشتغال واسعة وثريَّة لهذا الحقل. 

حيث الكتاب هو مجموعة دراسات في نظرية العلامات وجدت تطبيقاتها في مجموعة أعمال فنيّة وكتابيّة والتي جاءت بتنويعاتٍ فكريّة متناثرة على مسارح فلسفة المعنى.

فصول الكتاب أسماها المؤلف "قرنفلات" جاءت على شكل مقاربات للكشف والإبانة عن القوى المجازية الثقافية التي تثير الإدهاش والمستقرة في نُظُم الرموز في خطابات الفنون الجماليّة والشعريّة.

       ويحضر الغراب الطائر الذي يثير حالة من النفور في معتقدات الأمم، قرنفلة أولى من هذا الكتاب حيث تقصّى المؤلف "الغراب" رمزاً ودلالة لدى الشعوب ومعتقداتهم، وصولاً إلى قصيدة الشاعر الامريكي "ادغار ألان بو ــ الغراب" وهي قصيدة رؤيويّة تأمليّة يلعب فيها السارد دوراً في تتابع الأحداث بصورة متصلة.

ليصل المؤلف بين النص الشعري واللوحة عبر استعارة غراب الفنان العراقي علاء بشير الماثل في معظم أعمال الفنان. 

ذلك أنَّ الغراب في التشكيل الفني يشهد "تغريباً" في مأثرة علاء بشير. 

حيث يظل الغراب علامتها الرمزيَّة الكبرى. 

ويظل الغراب الشاهد على مجد البشريَّة المتهالك بفعل الحروب / السياسات/ النظم التوليتاريّة.

في القرنفلة الثانية "آشوريات لورد بايرون ــ سيمائيّة الفن" وجد المؤلف في مؤلفات الشاعر الرومانسي الإنكليزي لورد بايرون تناصات تاريخيّة بأبعاد ثقافيّة تجلّت في عمله "دمار سنحاريب"، والذي اعتمد فيها الشاعر على الواقعة عبر (صياغات شعريّة عبرت الواقع وجموده، جاعلاً منها واقعاً مفترضاً مؤمثلاً ومحاكاة فنية وتمثيلا للواقع ـ التاريخ) ولكي ينقل لنا الشاعر الصانع الفعل والفعل المضاد ولكي يرصد حركة الرموز في احتداماتها 

البطوليَّة.

في القرنفلة الثالثة حضر استذكار لتجربة فنيّة في مجال الرسم والنحت عراقيَّاً والتي لم تأخذ بعدها القيمي والتاريخي على خارطة التشكيل العراقي، إنّه الفنان "أحمد فليح البياتي 1945 ــ 2014" إذ أضاء المؤلف حياة هذا الفنان الميساني وأثره الجمالي والفني عبر نصبه تمثال "الأم العراقيَّة ــ المرأة" الذي يتوسّط مدينة العمارة. 

وتتبع المؤلف سيرة الفنان ولادة ودراسة وحتى وصوله لإكمال دراسته في إيطاليا واغترابه هناك لسنوات طويلة ومشاركاته في العديد من المعارض الفنيّة وحتى رحيله المفجع بعيداً عن الأضواء.

"سيمائيات الجسد الأنثوي" هو عنوان ومتن القرنفلة الثالثة، تناول فيها المؤلف مقاربات نقديَّة لعدد من القصائد التي تمحورت حول الجسد الأنثوي ومدياته الجماليَّة، وحيث تحول الغنائيَّة إلى خطاب رمزي بفعل قوة التخييل، ذلك أنَّ الشعر "قوة تعبيريَّة لا مباشرة، تتجلى في شحن الخطاب الشعري بتعالق من العلامات".

القرنفلة الخامسة أينعت تحت عنوان "الفلسفة والترجمة والتأويل" حيث منطوق هذه الدراسة يشي بغرائبيتهِ بين تلك القرائن الدلاليَّة أي بين الفلسفة والترجمة، إذا ما أخذنا بالتصور القائل أنَّ الفلسفة تجريد ذهني حول قضايا الميتافيزيقيا، فيما الترجمة فن لفظي يقوم على أساس متين من العلم.

متوقفاً فيها المؤلف الشيخ عند اثر إنساني عظيم، ألّا وهو "القرآن الكريم" وترجمته، حيث التحول الذي حصل في القرن التاسع عشر في النظر إلى القرآن، والذي جاء بفعل ازدهار الدراسات الاستشراقية بالمعنى العلمي للكلمة. 

كما أن تأويل القرآن قد دفع لا محالة اهتمامات العلماء المتطلعين إلى تطبيق طرائق النقد الأشد تسامياً في هذا الحقل البكر.

القرنفلة السادسة في الكتاب تحت عنوان "الرؤيا والتأويل ــ رؤيا الملك في سورة يوسف".. إذ كشف المؤلف أنّ "القرآن الكريم من وجهة نظر سيمائيّة أسلوبيّة هو نزول بلسان عربي مبين"، واللغة ــ اللسان ظاهرة تضم كل مستويات اللغة من صوت ونحو ودلالة وسياق، واللغة تطرح ضربين من الإحالة "الإحالي المباشر" و "المجازي اللا

مباشر". 

وتأتي هذه الدراسات مركزة على تحليل "حلم الملك في سورة يوسف من دون إغفال الأرومة التاريخيّة ـ الثقافية للخطاب. 

بهذه الرؤية يمكن إدراك المبادئ البنائيَّة الكونيَّة التي تنتظم الخطابات الدينيَّة باعتبارها خطابات منوطة رسالتها بشأن الخالق كما هي تهتم بشأن المخلوق في هذا العالم.