الوجه نافذة الدخول إلى قلب الإنسان

ثقافة 2024/01/10
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

 الوجه نافذة الدخول الأولى إلى الإنسان، وهو من أهم نوافذ الدخول إلى مشاعره وقلبه. نرى إنسانا للوهلة الأولى وكأن وجهه مصباحٌ يضيء باطنه، أو نرى وجه إنسان ملتبسا مبهما غامضا. الوجه مفتاح بوابة شخصيّة الإنسان، يأخذنا الوجه في رحلة اكتشاف شيء من اللامرئي في الإنسان. الوجه بوصلة التفاعل الإنساني والتواصل الأخلاقي بين إنسان وإنسان، الوجه مرآة يرتسم فيها شيء من فرادة كل فرد وتميّزه عن غيره. ‏في الوجه يتكشف شيء من المعنى الأخلاقي والروحي الذي يمكن أن يمنحه كل إنسان لغيره، في الوجه نقرأ ما يرشدنا لكيفيّة التواصل الإنساني وإدارة العلاقة مع البشر. عندما نلتقي إنسانا أول ما نلتقي وجهه قبل كل شيء، الوجه ضوء غالبا ما يكون الأوضحَ تعبيرا، والأشد تأثيرا في العلاقات الإنسانية. الوجه مرآة لا يمكن رؤية الإنسان والتوغل إلى عالمه الجواني إلا من خلالها. العلاقات الإنسانيّة العميقة الوجه من أسرع مفاتيحها، ‏الحبّ الذي هو أعذبُ وأغنى علاقة إنسانيّة الوجه من مفاتيحه الأساسية.
 الوجهُ بقدر ما هو قناعٌ يحجب شخصيةَ الإنسان، هو مصباحٌ يضيءُ ما في داخل الإنسان، التمييز بين الحالتين يتطلب فراسةً وحدسًا وخبرةً لتمييز الوجهِ المخادع المتصنِّع والوجهِ العفوي الصافي الصادق. تعبيرات الوجه تؤثر في قراراتنا حيال مَن نتعامل معه، أحيانًا يكون أثرُها حاسمًا في نوع الموقف الذي نتخذه بالإقدام أو الإحجام. تعبيرات الوجه مختلفة، أحيانًا يعكس تعبيرُ الوجه الفعلَ وأخرى يعكس الترك، أحيانًا يعكس النورَ وأخرى يعكس الظلام، أحيانًا يعكس القبولَ وأخرى يعكس الرفض، أحيانًا يعكس الإعجابَ وأخرى يعكس النفور، أحيانًا يعكس الإقبالَ وأخرى يعكس الإدبار، أحيانًا يعكس السكينةَ وأخرى يعكس القلق، أحيانًا يعكس الطمأنينةَ وأخرى يعكس الفزع، أحيانًا يعكس الوجومَ وأخرى يعكس الإفصاح.
 الوجه هو الأفق الأخلاقي للتواصل في رأي الفيلسوف الفرنسي من أصل لتواني (1906 - 1995) إيمانويل ليفيناس. الأخلاق محور فلسفة ليفيناس، تبدأ فلسفتُه بالأخلاق، فهي الفلسفة الأولى قبل الأنطولوجيا. أعلى من وظيفةِ الأخلاق بنحوٍ احتلت مكانةً تتفوق فيها على كلِّ شيء. جعل الوجهَ مفتاحَها، من ملامحِ الوجه يمكن التعرّفُ على الإنسان واكتشافُ شخصيته وفهمُ كيفيّة التواصل معه، بنحوٍ صار «شاغله الأساسي هو ترسيم علاقة (الوجه- لوجه) الأخلاقيّة بالآخر»(1). يركز ليفيناس على الوجه لفهم العلاقات الإنسانيّة والتفاعل الاجتماعي، إذ يقول: «فالوجه هو الذي يبدأ كلّ خطاب، وكلّ إمكانية للخطاب، بما فيه ذلك الذي يعبر عن المسؤولية التي ستقوم عليها العلاقة الأساسية بين الأنا والآخر»(2) .
 بعض الناس الباطنيين العاجزين عن التعبير عن مشاعرهم يبدو أحيانًا وجهُهم كأنّه ممحوٌ لا تظهر عليه أيّةُ ملامح، أو يبدو مظلمًا، أو يبدو كأنّه شبحٌ مخيف، لا يعرف هذا الوجهُ الابتسامة، وغالبًا لا تظهر عليه آثارُ التعجّب والدهشة والانفعال والتفاعل. الوجه العاجز عن التعبير عن عواطف صادقة يعجز عن بناء علاقات عميقة. العلاقات منبعُها الأساسي العواطف، العواطف الصادقة تنبعث وتتغذى من الكلمات المبهجة وتعبيرات الوجه بالبشرى والابتسامة. ابتسامةُ الوجه من شأنها أن تضيءَ قلبَ مَن تتعامل معه، وتجعل حضورَنا وتأثيرَنا أسرع في حياة مَن نتواصل معه. في: «دراسة أعدتها جامعة تينيسي الأميركية، ونشرت في 2019، أظهرت أنّ الابتسامة يمكن أن تجعلنا نشعر بالسعادة. حيث قام الباحثون بتحليل نتائج 138 دراسة شملت 11 ألف شخص، وأجريت على مدار 50 عامًا الماضية، وتوصلوا إلى أن الابتسامة -وإن لم تكن تلقائيَّة - تولد قدرًا من السعادة والفرح أو البهجة. ولا يعني ذلك -حسب المجلة - أنَّ الابتسامة وحدها يمكن أن تخرجنا من حالات الاكتئاب والحزن، إلّا أنّها خطوة جيدة كمرحلة أولى نحو التخلّص من المشاعر السلبيّة»(3). و «نشر آلان كوينِ وداشر كيلتنر وكلاهما بجامعة كاليفورنيا في بيركلي بحثاً عام 2018 في مجلة (أميركان سايكولوجست)، خلص إلى أن إشارات الوجه والجسم معا يمكن أن تؤشر على ما لا يقل عن 28 صفة مميزة من المشاعر اليوميَّة على الأقل في البالغين الغربيين. وهذه تشتمل على الكبرياء والخجل والرغبة والتسلية. ويقولان، إنَّ هناك الكثير من أنواع الابتسامة المتنوعة التي تظهر على حالات أكثر تحديداً، مثل التسلية، والرغبة، والحب، والاهتمام، والرهبة، والتعاطف»(4).
 يشكو لي إنسانٌ عاطفي من صديق له، يبخل عليه دائمًا بكلمة طيبة، ويستخفّ بمنجزه ولا يكترث به، وعندما يتحدث إليه ينظر إليه بوجهٍ متجهم يشي باستخفاف واستفهامات إنكاريّة، وينشغل بإظهار تفوقه عليه. يتكلّم بنبرةٍ حادّة ولغةٍ تسلطيّة متعالية كالذي يصدر أوامرَ عسكرية، يستعمل كلماتٍ قاسية بلا أن يكترث بمشاعر مَن يصغي إليه. يقول إذا أهديتُ له كتابًا ظهرتْ على وجهه حالةُ سخرية وقرف، ولا يترك هذه الفرصةَ قبل أن يسمعني كلماتِ ازدراء، تشعرني بتفاهة كتابتي وهزالتها وبؤس تفكيري. هذا الإنسان دائم الحديث عن كتاباته وذاته المتورِّمة، يترقب من الكلِّ تبجيلَ منجزه والاحتفاءَ به من دون أن يبجّل منجزَ أحدٍ أو يحتفي به.
  لفرط إعجابي عند قراءتي كتاباتِ كاتبٍ تورطتُ بعلاقةٍ معه في مرحلةٍ مبكرة من عمري، كان الرجلُ غريبَ الأطوار، نادرًا ما يبتسم، وجهُه مظلم مكتئب حانق طوال الوقت الذي تجلس معه، لا تسمع منه إلّا الشكوى من تضييع مكانته، وتجاهلَ القرّاء لكتاباته، وتقديمَهم لغيره على الرغم من أنّه هو الأعمق والأكفأ والأشدُّ انتماءً لوطنه. لم أسمع منه ذكرًا لإنسانٍ بخير إلا في حالات نادرة، ولو ذكر أحدًا مرة بخيرٍ يعود لينتقم منه بمناسبة وغير مناسبة في مرات لاحقة. يسلق لسانُه كلَّ اسمٍ يرد بخاطره، مسكونٌ بملاحقة الناس بالاتهامات والازدراء، لا يكفّ عن ممارسة تبخيس الناس حقوقهم، كأنّه مصابٌ بالإدمان على هجاء الناس، لا يستطيع الخلاصَ من الانشغال بالحديث الممقوت عن غيره ما دمتُ جالسًا معه. حين تحتفي به لا تصدر منه أيةُ اشارةٍ للاحتفاء بك، لا يبادلك أيةَ مشاعر تعكس الودَّ والامتنان. متى جلستَ معه لا يعطيك فرصةً للتحدث، وإن قاطعته ينزعج وربما يتصرّف بلا تهذيب. بعد مدة غادرتُ هذه العلاقةَ المنهِكة، لم أتخذ موقفًا سلبيًا من الرجل، ولم أعد أذكرُه لا بلساني ولا حتى بذهني، إلا أن يذكّرني به غيري. شطبتُه من ذاكرتي إلى الأبد، عندما وجدتُ نفسي متى جلستُ معه أخرج وأنا حزين متذمّر، غاضب من هجائه المبتذل. ينطلق هذا الإنسانُ من مديونيّةٍ متوهِّمة له في أعناق الناس، يحسب أن وظيفة الناس إكرامه واحترامه من دون أن يُكرم أحدًا بشيءٍ أو يحترمه. لم يعرف عنه يومًا أنه بادر بكلمةٍ طيبة أو موقفٍ جميل. الحياة مديونيّات متبادلة، الإنسان محكومٌ باحتياجاته المتنوّعة، احتياجُه للمعنى عميق، يترقّب كلُّ إنسان من الصِّلات خارج إطار العمل المهني والوظيفي والتجاري، أن تشبع الصلةُ بغيره شيئًا من حاجته الأبديَّة للمعنى. أولئك الذين يحسبون أنَّ لهم مديونيّةً على الخلق من دون أن يقدّموا لهم شيئًا ماديًا، ولم يضيفوا لحياتهم أيَّ معنى روحي أو أخلاقي أو جمالي، تجفُّ روافدُ علاقاتهم بغيرهم ويهجرهم أقربُ الناس إليهم بالتدريج.
  هناك فرقٌ بين التعاملِ الاجتماعي مع الإنسان، وبين فهمِ الإنسان وتفسيرِ سلوكه وتناقضاته بعمق. فهمُ الإنسان يجب أن يكون في ضوء الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتربية، ومعطيات العلوم والمعارف الحديثة المختلفة. التعامل الاجتماعي مع الإنسان يجب أن ينضبط بالمعايير الأخلاقية، الضمير الأخلاقي يفرض علينا أن نعامل الناسَ بالحسنى، حتى لو كان مَن نتعامل معه لا ينضبط سلوكُه بمعايير أخلاقيّة، إن كان كاذبًا فكنْ أنت صادقًا، إن كان خائنًا فكنْ أنت أمينًا، إن كان مراوغًا فكنْ أنت مستقيمًا، إن كان مدلِّسًا فكنْ أنت واضحًا. أعرف أن الصبرَ الطويل لا يُطاق على معاملة بعض الناس المصابين بأمراض نفسيّة وأخلاقيّة حادّة. جربتُ ذلك مرارًا، لكن في خاتمة المطاف تعبتُ، لحظة اكتشفت إصابةَ هذا الإنسان بمرضٍ نفسي حاد، وأحيانًا تكون الإصابةُ مضاعفةً بملازمة المرض الأخلاقي للمرض النفسي.

الهوامش:
1 -  تِد هُنْدرتُش «محرر»، دليل أكسفورد الفلسفي، ترجمة: د. نجيب الحصادي، مراجعة: د. منير الطيباوي، 2021، ج2: ص 1314، هيئة البحرين للثقافة والآثار.
2 -  المصري، وفيقة، «وجهًا لوجه أم قناعًا لقناع: ليفيناس والعلاقة الأخلاقية مع الآخر»، معنى، 8 نوفمبر، 2020.
3 -  موقع قناة الجزيرة، 11/10/2020.
4 -  صحيفة الشرق الأوسط، 2 مارس 2020.