خضير الزيدي
قدم الفنان السوري خالد الرز أكثر من معرض فنيّ، وكانت أعماله تنبئ إلى قدرة ومهارة ينبغي الإشارة إليها بأعلى صور الوقار، فهذا الفنان يؤسس إلى فن مختلف عن طريق المواد الخام وارتباطها الفعلي مع ما يكافئها من تراكيب ومستويات تتعزز في رؤية فنية تنهض ضمن مبدأ الاختلاف الجمالي. هذا الانخراط في المتغير بدأ لافتا لنا لأنه مبني على تنظيم لوشائج مختلفة يعمل على إعادتها لتأتي مشيدة بإتقان ومهارة عبر وسائط تجلب نوعا من التلاعب البنائي في العمل من أجل إنتاج خطاب يدفع به الرز للتعامل مع مناخات تبدو أكثر اصراراً على الاستجابة للشعور الجماليّ ولكن كيف يحدث كل ذلك؟
لا غرابة أن يخبرنا ونشاهده يقدم عمله من الورق المصنوع يدويا، فهو عبر ابتكاراته وسعيه يصنع الورق الذي يحتاج إليه في مرسمه، حيث يبدأ في عمل عجينة الورق من مواد الطبيعة كالأعشاب، والأوراق القديمة، وبعض المعادن المختلطة مع العجينة ليستفيد من الصدأ الذي ينتج عنها في نهاية الأمر هذه الاختلاط. انتج لنا تمثيلا صوريا مبنيا على التكرار والمغايرة وطور من أدواته ومواده الخام لتكون اللوحة، أما مبنية على التطور الشكليّ الصرف، أو يضاف لها طابع الحروفيات. والغاية في نهاية المطاف خلق وحدات جمالية انسجمت مع طرائق العمل، فهو لا يبدو مترددا في إضافة العديد من الخامات إلى لوحته، ولا يعير أهمية لما تنهض به شكليا، المهم هو المسعى الجمالي في منجز عمله الفنيّ.
شخصيا أتفق مع رؤيته التي يحملها بأن يذهب بالمتلقي إلى أقصى غايات الجمال، حتى ولو على حساب المعنى الذي يخرج من لعبة الصراع في رغبة غريبة وفاقدة للمجاورة، وبما إنني ممن يحترم تجربة هذا الفنان ويتابعها بشغف فقد عرفت بأن مسعاه في إنتاج كل هذه الأشكال ليس من أجل توثيق لأطوار العمل المختلف بل لأنه يستبدل فكرة الاشياء العدمية بمتخيل جمالي. وهكذا سنقف عند عشرات اللوحات التي تحمل سمتين مميزتين أولهما (المعرفة والتقنية)، وثانيهما (الخطاب الجمالي لمحتواها
الكلي).
الملفت أن خالد الرز لا يتصارع من لوحاته للسباق في صناعة جديد له، بل يتطلع لإنتاج فن يحمل حدسا ومعرفة ووظيفة جمالية يعتمدها وفقا لبنائها الشكلي، حتى لو كلفه ذلك البقاء طويلا في اشتغال أكثر فترة وفي لوحة واحدة كي يمهد لنا نحن محبوه بأن نتخذ من اشتغالاته المعرفية شعارا لحاجات جمالية تضاف إلى الكثير مما نراه في محاولات البحث عن الجميل والممتع في الوجود الإنسانيّ. عندما نعود لمراجعة بعض من فتراته الفنية سنجده بدأ في مرحلة جديد بعد الحروفية معتمدا فيها على البحث عن وسيط أو مادة مختلفة مع الحفر والتنقيب عميقا في الأبعاد البصريّة الجماليّة لتلك المادة، لكي ينجح في تنفيذ الشكل البصري الذي يسعى لإنتاجه أمامنا، فلا غرابة أن يلجأ إلى عوالم الطبيعة ليأخذ مادة الخشب متمثلا بقشور الشجر والورق والمعادن، كما حدث معه في إضافة كربون لحام الحديد الى لوحته.
ليس غريبا القول بإن الفنان يعمل بتأن وتوازن في خلق منظومة عمل فني له مسار أسلوبي يرتبط بين المادة وجماليات الحرفة، وهكذا يبدو الطراز البنائي المتكون في تكويناته الشكلية، كأنه يجاري وقائع الإنسان واستدلاله في العودة للطبيعة الأم. وفي الحقيقة هي دعوة للجميع من قبل الفنان بأن الخروج عن نمط التعامل مع الطبيعة خيانة للوجود، وهو منطق مقبول ليس لأن له محمولات اسطورية أو وجودية، بل لأننا نشعر بغربة في الحياة جراء عدوانية الآخر أو اقصائه من بلده وتهجيره وكتم انفاسه وصراخه من أجل حريته، لهذا يسحبنا الرز إلى الطبيعة كحل وضرورة مماثلة لغيابنا الروحي من ماديات وماكنة الحرب. وهنا جاء دور الفن ليكون مميزا في نشر هذا التصور وفهم ضرورة الالتفات إليه فما الذي أحدثته لوحاته الفنية؟
في أعماله هناك مساحة تأمل تنقطع بشكل ملفت كأنها جاءت جراء صرامة التجريد في الانتاج الفنيّ، لتسهل على المتلقي طبيعة ذائقته وفهمه لمحتوى تلك الاشتغالات، فهو يشبع تكوينه الفني طاقة وايحاء ويتكفل بمهارته ورؤيته، إضافة سمة حسيّة وجماليّة تجاري الايقاع النفسيّ للمتلقي ليس على المستوى المفاهيمي لبعد العمل، وإنما لكل ما تحمله من موجهات تبدو في إطار تكوينها الهندسي والبنائي الصارم، فهي بحاجة إلى من يفسرها لا مع من يتعارض معها.
إنه فنان يمارس سطوته جماليا على منجزه، كأنه ينتج لنا لوحات ذات طابع (تأملي/ وحسي) في لحظة لا يمكن أن نغض الطرف عنها، لكن في الحقيقة هناك مراجعة ذهنيّة يقدمها عمله تنطوي على تساؤل عن مدة استجابة المتلقي لكل غايات الرز نفسيا ووجدانيا.
إنه يشترط أن يمنح متلقيه الجمال فقط، ثم يبحث عن فرصة الحرية المفقودة في الحياة اليومية.. دعونا نعترف وبشكل واضح هناك المزيد من المآثر الجماليّة والأسلوبيّة تختص بها لوحاته، لأنها لا تشبه أعمالا سابقة يخيم عليها الهوس والمناظرة.
اعتقد أن لوحاته وبنائها الشكليّ، ودقة تكوينها بدت محببة لنفسه وغير مشوشة أمام ناظريه، وفي الوقت ذاته وفر لها غطاء ثقافيا جاء جراء فهم الفن عند هذا الرز المثابر، فكان منجزه بعيدا عن العقائد والغيبيات قريبا من هوس الحرية والدعوة للبحث عن الجمال الذي ينشد له وهو فيأاقصى غربته الروحيّة عن أمكنة ولد فيها فنيا واجتماعيا.