طالب عبد العزيز
نفتقد في ثقافتنا العراقيَّة إلى تسليط الضوء على النصف المعتم، أو المستغلق في حياة منتج الثقافة (الكاتب والشاعر والفنان) حتى لتبدو مدوناتنا الشخصيَّة قطعة نقديَّة، نقش على أحد وجهيها شيء ما، أما الوجه الثاني فقد ظل مصمتاً، يشير إلى مادة المعدن حسب، لم يكتب عليه شيء، وبذلك، يعاني طالبُ الدرس والناقد والباحث كثيراً إذا أراد تناول كتاباً في الشعر أو الرواية. هناك دائماً ما هو مجهول في سيرة أدبنا العراقي. قليلة هي المصادفات التي جمعتني بالشاعر نامق عبد ذيب، يتخذ من مدينة الرمادي مقاماً، وكثيرة هي المقاصد التي أخذتني إلى شعره، لكن عناية الهيئة المنظمة لأمسيتنا الأخيرة في اتحاد الأدباء/ بغداد، والتي جمعتنا معاً، عقدت أكثرَ من آصرة بيننا، ومثل أيِّ مفصل شائك، وغير منكشف، أو مسكوت عنه.
كنتُ قد وقفت على بعض مما لا أعرفه عنه، هو الذي اكتوى بنار الحرب الطائفيَّة، والتي اضطرَ فيها إلى ترك بيته، ومدينته أكثر من مرة، وظل متنقلاً من حيٍّ إلى آخر قبل أن ينتهي المقام به في تركيا، متغرّباً مع أسرته، هو المجبول على المُكث الطويل قرب الفرات، المقدودُ من طينةٍ عراقيَّة خالصة، يصعبُ التفريق وبالغربة بين
عناصرها.
وقبل أن يسمّي موظفُ فندق قصر السدير، الذي تطلُّ واجهته على شارع السعدون، ببغداد الغرفةَ 206 مقاماً وسكناً لي، كان نامقٌ قد أكمل الحجز فيها، ولأننا نعلم بسكننا المشترك هذا فقد ترك حقيبتَه أسفل نافذتها، وجلس ببذلته الأنيقة، وبوسامة الشاعر، التي أعهدها فيه، ينتظرني في بهو الفندق، وحين طالعني وجهُه الطفليُّ تركتُ يدَ موظفِ الفندق عالقةً في الفراغ، وذهبتُ لمعانقته. لا شكَّ، بأنَّ الاسمَ (نامق) يوحي لنا جميعاً بمعنى من معاني الرِّقة والجمال، فنامقٌ ويتنمقُ ومُنمَّقٌ، أيّ المُزخرفُ، أو المُبالغُ فِي تَزييّنه، والمَصُوغُ صِيَاغَةً بِأنواعِ البَدِيعِ.. وهل كان نامقٌ غير
ذلك؟.
كتب نامقٌ كتابه الشعري (الصعود إلى الجمَّار) الذي شرفني بإهدائه، في الفترة بين عامي 2015- 2017 وهي السنوات التي أمضاها متغرِّباً، في إحدى مدن بلاد الأناضول تركيا. هكذا، ودونما صدى مقابل، سيخترقُ اسمُ الشاعر بتغربه هذا ذاكرتنا مشيراً إلى الوالي التركي نامق باشا (1804- 1892) الذي حكم بغداد ذات يوم، لكنَّ نامقاً الشاعرَ ومن مقامه هناك سيكتب لنا واحداً من أجمل كتبه، وسيحيلنا إلى واحدة من قضايا الشعرية العراقية، والتي لم تحظ بالتأمل والمراجعة النقديّة، على اهميتها، وقيمتها الابداعيّة، فهناك أكثر من شاعر وروائيٍّ وفنانٍ غادروا العراق للسبب ذاته، وكتبوا من متغربهم القسري مدوّنات، ستظل بحاجة إلى متصفّحٍ أمين، يطلعنا فيها على ما غُمَّ علينا، وظلَّ حبيس صمته، مطلسماً إلى
اليوم.
يستهل نامقٌ كتابه بعبارة (مازلتُ محدِّقاً أترقّبُ العودةَ للديار) إذن، نحنُ أمام تجربة جديدة، فالشاعرُ المقيمُ الآمنُ ليس كالشاعرِ المتغرِّب الخائف، وأزمة زملائنا الأدباء، في مدن الصراع أيامئذ تختلفُ عمّا عانى منه أقرانُهم في المدن الأخرى، وإن كانت بأمن أكثر، وإنْ كانت المحنةُ واحدةً، والمصيبةُ مشتركة، لكنَّ منقلب السياسة ودرجة الميل والانحدار في مجتمع كالعراق تتباين طائفيَّاً بين مدينة وأخرى، وما يعنينا هنا، هو التجربة الكتابيَّة الجديدة.
يكتب نامق: «كانَ القمرُ مجردَ هالاتٍ تحيط بالفراغ/ ولكنّكَ حين اشرتَ إلى السماء/ ظلَّ شيءٌ من أثر يديكَ عليها/ فكان الهلال». إذن، قمرُ نامق في الرمادي ليس هو قمره في الأناضول، فصورة القمر هنا هي مجردُ هالات تحيط بالفراغ، وحين أشار تركت الهالاتُ أثراً على يديه، لم يسمِّه، فالهالات تلك هلالٌ، لم تكتمل قمراً بعدُ، والقمرُ كمالٌ، والهلالُ انتظارٌ في الكمال، والشاعرُ هناك، لم يعدْ من مغتربه
عد.
يطولُ أملُ العودة عند الشاعر، ويبلغ شجنُه (شجن الغريب) حدَّاً موجعاً، فلا القصائد تسعفه، ولا التذكّرُ يعيده، ولا الحنين، لذا، فقدَ الجدوى من الكتابة، فهو لا يكتب، إنّما يرفرفُ، كشجرةٍ في عاصفة، تساقطتْ أوراقُها، لكنَّها ما تزال باقيةً كشجرة «أنت لا تكتب/ أنت ترفرفُ كشجرة في عاصفة/ أوراقك تساقطت/ ولكنَّ شجرتك باقية»
(الشاعر ص9).
تبلغ محنةُ الشاعر ذروتَها في الحروب الجانبيَّة (حروب الطوائف بخاصة) ويتكشف لنا الجزءُ الأكثر غموضاً في روحه، وربما نضطر معه إلى تعقّب حياته، عبر مواقفه الصريحة والمضمرة، ومآل الحوادث من حوله، على خلاف القاعدة في الحروب الوطنيَّة، حيث تبدو كلُّ أفعاله واضحةً، بما في ذلك خلجات قلبه، وهنا يكشف نامق عن عميق جراحه، بقوله: «فما لك تقفُ خاذلا جناحيك، مثل ملاكٍ مهزوم/ مالك تلمُّ الصدى كايِّ نايٍّ أعمى/ مسراتك ذاويةٌ في الأغاني ..»، (منحدرات الروح
ص11).
بصفحات كتابه التي تجاوزت المئتين لم يكتفِ نامق بتأمل غربته تلك، بل وجدناهُ غارقاً في مناجاةِ ما كانَ له ذات يوم في مدينة الرمادي، فنجده يفرد لها قصيدةً هي الأطول (القصيدة الشعبيَّة) نصوص عن الرمادي والأوهام، والمكونة من تسعة وخمسين مقطعاً، ولا نعرف لماذا توقف عند العدد هذا، ربما كانت إشارة لسني عمره، يطلعنا فيها على عالمه الذي كانه، والذي حمله معه، ابتدأ بصورة الخناجر في الأعراس، التي لم تكن خناجر: «فما كلُّ من هزَّ خنجراً براقص، ولا كلُّ من أراحت رأسها على الحائط بعاشقة»، وينتهي بقوله: «كيف سنعودُ أيّتها العمَّة سعْدة/ ما لنا أجنحةٌ/ ولا سيقانٌ/ نحن المنسكبون كماءٍ من قدحٍ
مكسور».
وفي القصيدة التي حمل الكتاب عنوانها (الصعودُ إلى الجمَّار) مناجاةٌ هي الأجمل، اغترفت من نهر الصدق ما فاضت به حروفها، استحضر حياته فأجملها، آخذاً روحه في سيلٍ عرمرم من مفردات الطبيعة، خاصته، إلى حيث لا يدري، أين ستنتهي به، فجعلها خاتمةً لكلِّ سُؤددٍّ كان له: «لا تقلْ لأحدٍ عن معنى النار فيحترق البرتقال/ لا تقلْ لأحدٍ عن معنى النَّهر فتغرقُ الجداول/ اكتفِ بما منحك النخلُ من ظلال/ واصعدْ/ فالجُمَّار بانتظارك» هو صعودُ الشاعرِ إلى
الجُلجُلة.