جمال العتابي
يتحدث نقاد الفن التشكيلي عن الأصالة الفنية، ويكررون ذكر مفردة " أصيل" في كتاباتهم، وأصبحت هذه الكلمة تعني في كثير من الأحيان ( الجودة الفنية)، و تتعارض أحياناً مع الحداثة في فنوننا المعاصرة.
مع تزايد الاختلافات حول فهم الأصيل، وعلاقته بالمحدث في الفنون العربية المعاصرة، تتعدد الاتجاهات النقدية والفنية التي تناولت علاقة الأصيل بالحديث، وكيف يكون الفن التشكيلي أصيلاً، أو يجمع بين أصالته وحداثته.
ولعل حيوية الحوار في ( الأصالة والمعاصرة)، ترجع الى أننا أمام تيارات عالمية جديدة، وردود فعل على هذه التيارات تمثلت في البحث عن الجذور الثقافية والفنية، لإيجاد الأصيل القادر على الديمومة.
لهذا السبب لا نستطيع فهم علاقة الأصالة بالمعاصرة، وتباين الآراء حولها، إلا من خلال تعريف المفهومين كعنصرين للتفكير الإبداعي، فالأصالة تعني التميز في التفكير، والندرة والقدرة على النفاذ الى ما وراء المباشر والمألوف من الأفكار، في كتابه( العالم والنص والناقد)، يذهب ادوارد سعيد إلى أن أفضل طريقة لدراسة الأصالة لا تتمثل بالتفتيش عن أول شواهد لظاهرة ما، وإنما تتمثل على الأرجح في رؤية نسخة طبق الأصل عنها، أو نسخة موازية لها، أو نسخة مكرورة عنها، أو في رؤية أصدائها.
وتتقدم قضية الأصالة والهوية والمعاصرة، على العديد من القضايا في الفن التشكيلي، والأهم فيها أنها عملية تاريخية جارية، ومعاشة، فهي ليست قضية اختيار أيديولوجي في أن نقبلها أم لا نقبلها، بقدر ما هي قضية سؤال حول كيفية التعامل معها واستيعابه، والحل يكمن في وعي المعاصرة وجوهرها، في هذه الحالة يمكن الحفاظ على الذات والخصوصية من دون الاستغراق في المتغيرات، أو العزلة عنها.
وينبغي عدم الخلط بين مفهومي المعاصرة والحداثة، فالمعاصرة ترتبط بالعصر، فتكون بذلك ذات دلالة زمنية، والحداثة منفصلة عن الزمن متجاوزة العصر، فلا يمكن أن نقول عن هذا المبدع (حداثوي)، إلا إذا أتى بجديد ومختلف، الحداثة تحمل في طياتها معنى مرجعية فكرية وتاريخية اجتمعت في مفهومها سبل التجديد والتحديث، يصفها رولان بارت بأنها انفجار معرفي شاع ظهورها مع اختراع الطباعة في عام 1436،كانت إشارة للخروج عن نمطية كل ما هو مألوف، وتقليدي، وتراث ماضي.
على ذلك اكتسب العمل الفني في فترة الحداثة قيمة ذاتية، إذ تخطّى الأنموذج المثالي لعصر النهضة، ليقدم أنموذجاً جديداً يعبر عن إدراك الفنان لواقعه وقدرته على تفسير هذا الواقع، فكانت فنون الحداثة على تعدد أنواعها واتجاهاتها ومصادرها تجمع بين التجديد والتحوّل. ووفقاً لخالدة سعيد، إن مسافة تفصل بين المفهومين تكمن في شمولية الحداثة، وخصوصية التجديد، كمظهر من مظاهر الحداثة، الجديد عندها هو إنتاج المختلف المتغير، وهو موجود في عصور مختلفة، لكنه لايشير إلى الحداثة دائماً.
وهنا تتضح إشكالية الفهم النقدي بالخلط بين الحداثة والمعاصرة، فالعمل الفني وفق المفهوم الحداثوي متعدد الاتجاهات الفنية والفكرية يحتمل كل الأساليب البنائية : التعبيرية، التكعيبية، التجريدية، تلك المدا رس يعود لها الفنان في بناء عمله الفني.
ولا أدل على أن مفهوم الحداثة أصبح أشبه بالمفتاح للدخول الفكري للعالمية، إنه مفهوم تجاوز التحقيب الزمني،
وفق هذا السياق، واجه الفن التشكيلي حالة من التحدي التي تتطلب البحث عن أساليب جديدة، وتصحيح المفاهيم الفنية، لمحاكاة تجارب الفن الأوروبي ومسلماته، إن أراد التطور، والقبول العالمي، هذا المنطق يطرح على الباحث السؤال، : هل الفن في حقيقته وجوهره، هو (واحد) في كل أنحاء العالم يفرض على الفنان الخضوع لتياراته، وقبول تحولاته؟ وهل وصل الفن العالمي الى الكمال المنشود، وعلينا أن نصل إلى جمالياته وأشكاله، حتى نضمن لأنفسنا حضوراً عالمياً معاصراً؟ أم فن المستقبل سيكون متجاوزاً، وإننا على أعتاب مرحلة جديدة سوف تكون على أنقاض فن الماضي، ولسوف يكون الفنان ثائراً على مفاهيمه؟
الفن التشكيلي بلا شك، لا يمكن أن يعبر عن رؤية مستقرة، بلا طفرة أو تغيير، لأن منحاه، التجديد الدائم للتعبير عن الحاجات الإنسانية المختلفة، ولا يمكن تجديد الفن إلا إذا تجددت الحاجات، وخلق الأشكال لتلبيها. هذا يعني أن الأصالة هي الارتباط بالواقع والتعبير عن حاجاته، والشكل وكماله الفني، هو الغاية الرئيسة للفنان، مضيفاً إليها رؤيته، وإحساسه، الفن كل ما أنتجه الإنسان عبر تاريخه لغرض جمالي، هو الريادة، والتجاوز للمألوف، ليس في الاتباع والتقليد.
هناك من يرى أن الفن التشكيلي ازداد أصالة حين اكتشف نفسه في التراث، واكتشف كل فنان نفسه عما هو مشترك مع زميله الآخر، وعبر توسع الجدل ومحاولات فهم الأصالة، واجتماعية الفن ومعناه صار التراث العراقي قضية مطروحة للنقاش منذ بدايات الخمسينات في القرن الماضي، أسهم فيها كبار الفنانين، بدءاً بجواد سليم، من دون إغفال سواه من الفنانين في مجال تحديد الرؤية، أو في مجال مفهوم نظرية المعرفة.
من جهة أخرى دافع أصحاب جماعة الرؤية الجديدة عن مفهومهم للتراث في بيانهم عام 1969 : علينا أن نمزق التراث لنوجده من جديد، وعلينا أن نتحداه لكي نتجاوزه، أن نعترف به في حدود وجوده المتحفي *
بمعنى أن مفهوم النظر للتراث لم يتحدد على نحو نظري واضح، والتالي لم تكن التطبيقات إلا محاولات تجريبية، إن تأسيس موروث جديد ليس محض مغامرة، لأن التراث الرافديني ألهم عدداً من كبار فناني أوروبا، أمثال هنري مور، وماتيس، وبيكاسو، وسواهم.
إن هذه الشواهد، لم يلتفت إليها الفنان العراقي، فهل كان الفن الأوروبي يسعى للقطيعة مع الموروث حقاً ؟ أم تم استثمار الوعي بالموروث في بعديه السكوني والمتحرك،؟ إن الشك يدفعنا للاعتراف بالهوّة الحاصلة في أساليب الفنانين المعاصرين بين استيعاب الشكل الفني وعصره، والشكل النابع من العصر، خلاصة القول : إننا لانوجد إلا من خلال تراثنا الذي لا يمكن رفضه، لأن رفضه يستدعي بالضرورة، وجوده، هكذا يصبح البحث دائرياً، حيث لا يوجد الفن معناه إلا في جدال مع تاريخه، كذلك لايستمر الأثر الفني إزاه إلا بذاته.
....................
* بيان جماعة الرؤية الجديدة، بغداد 1969،وقعه الفنانون : هاشم سمرچي، محمد مهر الدين، رافع الناصري، صالح الجميعي، ضياء العزاوي، إسماعيل فتاح.