في رحيل طائر الأشجان أحمد الجابري

ثقافة 2024/01/15
...

 صدام الزيدي

ترك رحيل الشاعر اليمني، أحمد الجابري، الذي وافته المنية السبت 6 يناير/ كانون الثاني المنصرم، أسفا شديدا في الوسط الثقافي والفني، على مآلات الحالة الصحيّة التي عانى منها في سنواته الأخيرة، والإهمال الذي تعرض له بوصفه واحدا من شعراء اليمن الكبار الذين لامست قصائدهم وجدان الناس فعشقوها وترنموا بها بصوت كبار فناني اليمن مثل: أيوب طارش، ومحمد سعد عبد الله، وعبد الرب إدريس، ومحمد مرشد ناجي، وأحمد قاسم، وعبد الباسط عبسي.

ولم  يتوقف الإهمال عند المرحلة الصحيّة التي شكا منها الجابري واختار الحياة في غرفة واحدة بمنطقة الراهدة في محافظة تعز، قضى فيها نحو 30 عامًا من حياته في عزلة اختارها لنفسه بعد ظروف أسرية مرّ بها، وهو أب لولد واحد اسمه كمال يعيش في صنعاء. إنما امتد الاهمال إلى مراسم تشييعه والعزاء في رحيله بالعاصمة صنعاء، حيث وري الثرى في مقبرة هناك وسط مشاركة ضئيلة جدًا لنخبة من المثقفين يتصدرهم وزير الثقافة اليمني الأسبق خالد الرويشان وابنه وجيران ابنه، ما دفع بناشطين على “فيسبوك” للتأسف على الوداع المتواضع الذي لا يليق بشاعر بحجم أحمد الجابري، ودعوا لزيارات إلى قبره بعد أيام من الدفن اعتذارًا عن الحضور المخجل صبيحة دفنه، وأيضًا في القاعة التي فتحت لتقديم العزاء لابنه ومحبيه غير أن اليوم التالي لدفنه شهد مراسم عزاء تليق به في مدينة عدن حيث ولد وعاش شطرًا من حياته.

لا تزال قصائد الجابري المغناة بأصوات كبار الفنانين، تطرب اليمنيين وتشذب أرواحهم العاشقة والمتفاعلة مع قضايا الوطن والحياة لا سيما تلك الأغنية الشهيرة بصوت الفنان أيوب طارش (لمن كل هذي القناديل/ تضوّي لمن/.... لمن لمن/ لأجل اليمن)، وهي الأغنية التي رأى فيها شعراء ونقاد مثالًا للكتابة للوطن بوعي وجمال بعيدًا عن الاستعراض المبالغ فيه.

وتداعت منشورات المثقفين والكتاب اليمنيين على منصات التواصل الاجتماعي ممتلئة بنبرة حزن في وداع الشاعر الجابري بلغة تمتح من أفقه الشعري حيث حضرت كثير من عناوين قصائده المغناة 

فمنهم من ناداه قائلًا: “يا طائر الأشجان” وآخرون نادوه: “يا نُجيم الصبح”، وثمة من كتب بأسف: كيف لقناديل الأدب والشعر اليمني أن ترحل بهذا الشكل المؤسف من الإهمال؟. 

ومما كتبه الصحافي أحمد عبد الرحمن، قائلا: وأنت تحلق إلى “بلاد لا تعرف إلا الحب”، وداعًا “طائر الأشجان”، “الصب في عشق اليمن”، وداعًا “نُجيم الصبح”، “العاشق لليل”.. “الجوال معه في بحر الهوى” وداعًا يا “ضوء القناديل”. 

كما كتب الروائي علي المقري، ذاهبًا إلى القول إن أحمد الجابري أحد أعظم شعراء الأغنية اليمنية، رحل بعد مرض وخذلان دام سنوات عانى خلالها الكثير من النكران وعدم الاهتمام.

 ويضيف المقري: رحل شاعر “لمن كلّ هذي القناديل تضوّي لمن؟” و”على أمسيري” و”شفته ناقش الحنّة”، و “يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش” وغيرها من الدرر الفنيّة التي غنّاها المرشدي وأحمد قاسم وأيوب طارش وعبد الباسط عبسي.

رحل أحمد الجابري في وقت خفتت فيه أضواء قناديل اليمن.

أما الشاعر ياسين البكالي، فاكتفى باقتباس سطر واحد من قصيدة للجابري من ألحان وغناء أيوب طارش: (الزمان لو فات بعمرك/ مستحيل يرجع جديد). وختم آسِفًا: رحم الله الشاعر أحمد الجابري.


صومعة الجابري

وبنبرة أسىً، قال الإعلامي خليل القاهري، إنه لشيء محزن للغاية أن الشاعر أحمد الجابري عاش حياة التشرد وحيدًا في مدينة الراهدة بتعز في غرفة واحدة لما يقرب من 30 عاما، وقبلها حوالي 10 أعوام شريدًا بعد ظروف أسرية مؤسفة. كان ذهب في الآونة الأخيرة للعلاج في القاهرة وعمّان لكن انتكست حالته في تعز فانتقل إلى صنعاء ليقيم في بيت ابنه كمال.

ويضيف القاهري: تفاصيل كثيرة عن الشاعر الجابري هي محاطة بغموض شديد. التقيته أكثر من مرة في صنعاء وفي 2019 زرته بمعية فنانين يمنيين منهم الفنان عبد الباسط عبسي، وكان الجميع يلحّ عليه أن يمكث في صنعاء لكنه أصرّ أن يعود إلى الراهدة وإلى صومعته، الغرفة الوحيدة التي سمّاها هو (صومعة الجابري)، وهي غرفة بسيطة اعتادها لسنين طويلة جدًا ونتاج كبير من قصائده كتب فيها.

وينقل القاهري عن الجابري قوله إن اصراره للعودة إلى الراهدة (والصومعة) لأن الناس هناك “كلهم أحبابي وأهلي وجيراني”، اعتدت على حياة الصومعة واقتنعت بها حيث حياتي مرتبة وفق نظام معين. يزورني الناس والشباب لنقرأ ونجلس. الصومعة تمنحني أجمل الطقوس والأجواء للكتابة.

لكن القاهري يلفت الانتباه إلى أن الجابري في الآونة الأخيرة اضطر للعيش في صنعاء لأن غرفته في الراهدة تم احتياجها من مالكها وبالتالي لم يعد له (صومعته الخاصة) لكن هذا الأمر بعث الحنين لديه فظل يتذكرها ويحنّ إليها، تغيرت حياته تمامًا وكان يحنّ إلى الصومعة ويتمنى العودة إليها، ومتأزما تمامًا، إلى درجة أنه كتب فيها أكثر من قصيدة منها قصيدة (الصومعة المغلقة) والتي يقول فيها (من قال إن الصومعة لمبدعٍ ومبدعة/ مدار شعرٍ مُترعٍ وأنجُمٍ مُرصّعة)، إلى أن يقول: (عفوًا كأنّي ميّتٌ أغلقتُ باب الصومعة).

ويشير القاهري أيضًا إلى قصيدة (صومعة الجابري) التي كتبها في السنوات الأخيرة من حياته، وغنّاها عبد الباسط عبسي بعد أن ألحّ عليه الجابري أن يغنيها (مع أن عبد الباسط كان قد ترك الغناء)، تقول القصيدة في مطلعها: (لولاكِ ما كان الهوى يومًا لنا يا راهدة/ قد عشتُ فيكِ مُنعّمًا وحدي وكنتِ الشاهدة/ مرّ الزمان ولم تعد أيام عُمري واعدة/ قلبي لمن يا راهداة؟/ للراهدة.للراهدة).

وما لم يُعرف عن الجابري، (يتابع خليل القاهري حديثه)، أنه كان، بعد الجامعة، معلمًا للغة العربية في عدن بعد عودته من القاهرة، ثم مديرًا ناجحًا لعدة شركات صناعية وتجارية. صحيح أنه من مواليد عدن 1934، لكنه ينحدر من “الشُوَّيفة” بمديرية “دِمنة خَدير” في محافظة تعز.

غير بعيد، تداول ناشطون مقاطع  على “فيسبوك” يتحدث فيها الجابري، على هامش تردي حالته الصحيّة في الآونة الأخيرة وهو ينشد لأبيات شعرية تعبر عن مواجعه وأحزانه ووحدته، يقول فيها: (أضاعوني وهم أهلي/ بلا بيتٍ ولا سندِ/ أعيش العمر مغتربًا/ وحيد الدرب في بلدي).

وقبل 3 أعوام، كان الجابري احتفى بصدور ديوانه الشعري الأول “عناقيد ملونة” الذي احتوى الكثير من قصائده الشهيرة المغناة وغيرها من موشحات ورباعيات. جرى توزيعه على الجامعات اليمنية، غير أنه لم يجد طريقه إلى المكتبات والأكشاك، إذ جاء في طبعة فاخرة ما دفع الكثير من قراء الشعر الغنائي اليمني لدعوة جهة تمويل النشر لإصدار طبعة ثانية من الكتاب توزع للبيع وتناسب قدرتهم الشرائية. 

علمًا أن الجابري، كما يفيد خليل القاهري، أعلن رفضه التكسب من كتابه ونصح بتوزيعه على الجامعات اليمنية ليستفيد منه طلاب العلم.


شاعر متدفق العطاء

ومن جهته، قال الشاعر والناقد الفني محمد سلطان اليوسفي، إن رحيل الجابري، يمثل خسارة كبيرة، منوهًا بشعريته وتدفق عطائه، وعادًّا إياه من شعراء الأغنية اليمنية الكبار، محمد سعيد جرادة ولطفي جعفر أمان وعبد الله فاضل فارع وعبد الله عبد الوهاب نعمان وعلي بن علي صبرة، وغيرهم. معبرًا عن أسفه بالقول إن “الجابري عانى كثيرًا من الإهمال والتهميش ولم ينل حقه كغيره من مبدعي اليمن الكبار، الذين تنكر لهم الواقع ولم ينصفهم”.

ويؤكد اليوسفي، في حديثه أن: الجابري متنوع الإبداع الشعري، ففي الوقت الذي كتب أروع القصائد الغنائية التي شدا بها كبار فناني اليمن، كتب أيضًا النصوص الفصيحة التي تواكب الحداثة الشعرية، وهذا ما نجده في ديوانه (عناقيد ملوّنة).

وتابع اليوسفي: إلى حد كبير طغت شهرت بعض نصوص الجابري التي قدمت بأصوات المطربين اليمنيين كأغنية (لمن كل هذي القناديل) التي ترنم بها أيوب طارش، وكذلك أغنيات أخرى قدمها المرشدي والعزاني ومحمد سعد عبد الله وعبد الباسط عبسي وعبد الرب إدريس وآخرون.. وربما الكثير لا يعرف للجابري إلا تلك النصوص المغناة، لكن الجابري ليس مجرد شاعر فحسب بل هو أيضًا ناقد له اهتمامات نقدية وفيها يفند الكثير من الآراء حول النظريات الأدبيّة والتجارب الشعريّة اليمنية والعربية. 

كان قارئًا حصيفًا وموسوعيًا. وإلى ذلك، فقد حدثني أن لديه كتاب يهتم بعلم العروض، وفيه طرق جديدة لمعرفة البحر الشعريّ، إلا أن هذا الكتاب حتى الآن لم ير النور. 

خلال زياراتي المتكررة له في صنعاء في العام 2018حرصت أن أطل على حياته كشاعر عن نشأته وعن بداياته مع الشعر وعن علاقاته بالكثير من المطربين الذين ترنموا بكلماته، فكان دائم الحنين إلى ذكرياته إلى عدن في الأربعينيات والخمسينيات وذكرياته مع كبار أدبائها من كانت تجمعهم المجالس والمنتديات كالأديب  عبد الله فاضل فارع ولطفي جعفر أمان ومحمد سعيد جرادة..، ونقاشاتهم التي كانت تدور حول الأدب والفكر. 

كما كان يحدثنا عن دراسته في القاهرة منذ منتصف الخمسينيات، وكان يعتبر تلك المرحلة مهمة لأنها فتحت له آفاقًا جديدة من الاطلاع والاحتكاك بالوسط الأدبي.

وختم اليوسفي قائلًا: في سفر الجابري الأخير إلى القاهرة للعلاج قبل بضعة أشهر كان من حسن حظي أنني ألتقيت به مرارًا، وجلست إليه، وحتى وهو على سريره بالعيادة، كان حديثه معي عن موسيقى الشعر، والعلاقة بين هذين الفنين (الموسيقى والشعر)، ونصحني بقراءة بعض الكتب التي تتناول هذا الجانب.