وهْمُ الزمن

ثقافة 2024/01/17
...

شاكر الغزي


أصبحتُ مقتنعاً ليس أنَّ الزمن حقيقيّ فحسب، بل أنّ فكرة الزمن نفسها قد تكون المفتاح لفهم قوانين الطبيعة.

“لي سمولين”


تقول امرأة عاشقة في مسلسل تلفزيوني:

كنت أُحسّ الوقتَ واقفاً قبل أن يقول لي: أحبّك، أما بعدها فصار الوقت يركض ركضاً. 

ليست هي وحدها، بل كلّنا نمرّ بلحظات يتجمّد فيها الزمن، وأخرى يمرق فيها وكأنه لمحة بصر أو ومضة برق.

الزمن كغيره من الأشياء الحسّية المستعصية على التعريف، والتي لا ندرك من حقيقتها غير الإحساس بها، ولا يمكن قياسها مباشرةً، كالذكاء والألم مثلاً، ومثلما أنّ لكل شخص ذكاءه الخاص، وألمه الخاص؛ فإنّ له زمنه الخاص أيضاً. 





وبتعبير أعمّ: لكلّ جسم زمانه الخاص به كما يقول آينشتاين، أو على حدّ تعبير برتراند رسل: لكل جسم نظام زمنيّ محدد للحوادث التي تقع في جيرته. 

ربّما حين تُذكر كلمة الزمن نتحسّس ساعاتنا اليدوية أو ننظر إلى توقيتها؛ لارتباط مفهوم الزمن عندنا ــ نحن الأرضيّين ــ بالساعات. وإذا كان الزمن نسبياً وممّا لا يمكن قياسه مباشرة كالذكاء والألم كما أسلفنا، فماذا تقيس الساعات إذن؟

لعلّ إجابة هذا السؤال تتعلّق بجدلية الزمن، ما هو؟ ومن أين يبدأ قياسه؟

لو قلت لصديقك الذي تأخّر عليك: إنني انتظرك منذ ربع ساعة، فكلاكما يعرف أنّ ماهية الزمن ــ هنا ــ هو الوقت الذي مرَّ عليك مُنتظراً، ومقداره 15 دقيقة، تمّ قياسها بواسطة الساعة. إذن، فالزمن الذي نتداوله هو الثواني والدقائق التي تمرّ علينا، والتي تنتج عن تعاقب الأيام والفصول الناتجين عن دوران الأرض. بمعنى أنّنا نفهم الزمن لا من خلال إدراك حقيقته المرعبة، بل من خلال آلات قياس تحسب مقدار ما يمرّ على الإنسان من وقت على الأرض. 

أيضاً كلاكما يعرف أنّ الربع ساعة تمّ احتسابها ابتداءً من نقطة توقيت تمّ الاتفاق عليها بينكما، كتوقيت الساعة الخامسة مثلاً، وبهذا تُدركان كلاكما أنه تأخّر ربع ساعة فور وصوله في الساعة الخامسة وخمس عشرة دقيقة. أما لو وصلك في تمام الخامسة فإنّ زمن تأخّره سيكون صفراً. 

الزمن إذن أمر نحسّ به ولا ندرك ماهيته؛ لذلك فهو أكثر مصطلح يستعصي على التعريف، حتّى إن قالت معاجم اللغة، إنه اسم لقليل الوقت وكثيره، أو قالت كتب الفيزياء إنه وسيلة لتحديد ترتيب الأحداث بشكل لا رجوع فيه، وإلا فما معنى أن نتحدث عن زمن نفسيّ، أو زمن فيزيائيّ، أو زمن تخيّلي؟ 

ولعلّ جلّ ما نعرفه عن الزمن أنّنا يمكن أن نقيسه أو نخمّنه. 

وأكثر ما يتجلى لنا الزمن بتوالي الليل والنهار وتعاقب الأيّام والفصول، وقد تخيّل بعضهم الزمن على أنه نهر جارٍ باتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. وتخيّل آخرون خطّ الزمن على أنه شعاع طويل (سهم) يبدأ من نقطة الصفر، ويتقسّم إلى وحدات ثابتة تقع عليها الأحداث، وحيث أنّ نقطة انطلاق سهم الزمن غير معروفة، تساءلوا بِحيرة: 

من أطلق سهم الزمن؟!.

الأمر أشبه بأن تقود سيارتك ضمن طابور طويل من السيارات على طريق سريع باتجاه واحد، من الغرب إلى الشرق مثلاً. فأينما كنت في سيارتك على مسار الطريق، فأنت في لحظتك الراهنة التي تُسمّى الآن، وكلّ السيارات التي خلفك هي لحظات الماضي، والسيارات التي أمامك هي لحظات المستقبل، وكلّما ابتعدت السيارات خلفك باتجاه الغرب كانت لحظات الماضي أبعد عنك (عن لحظتك الراهنة)، وكذلك الحال مع السيارات الأبعد أمامك باتجاه الشرق.

وهذا الفهم الراسخ في أذهاننا، عن قرب وبعد لحظات الماضي والمستقبل قياساً إلى لحظة الآن الراهنة، كاعتبار ما حدث أمس أقرب إلينا ممّا حدث أول الأمس، وما سيحدث غداً أقرب إلينا ممّا سيحدث بعد غد، وهذا، يدلّ بوضوح على ارتباط مفهوم الزمن بمفهوم المكان، إذ أنّ البعد والقرب مفهومان مكانيّان.

ورغمّ أنّ خطّ السيارات هذا خطّ واحد، إلا أنّ لحظة الآن ستختلف من سيارة إلى أخرى حسب موقعها على مسار الطريق، وبالتالي سيكون لكلّ سيارة خطّها الزمنيّ الخاص، وستكون فكرة خطّ الزمن الموحّد ــ وأنّ الآن نقطة محددة عليه وثابتة للجميع ــ فكرة غير صحيحة. 

الأدقّ في هذا المثال، أن لا يقال عن السيارات أنها لحظات بل أحداث راهنة؛ فوجود الشخص في سيارته الخاصة في لحظةٍ ما على مسار الطريق ليس زمناً محضاً ولا موقعاً محضاً، بل هو حدثٌ ما يتداخل فيه الزمان والمكان (الزمكان Space - Time). والأكثر منه دقّةً أنْ يقال إنّ مسار الطريق السريع هو خطّ تمثيل المكان، وأنّ اللحظات الراهنة لكلّ سيارة في كلّ نقطة من نقاط هذا المسار تُمثَّل بشكل شريحة تقطع هذا الخطّ عرضياً تُسمّى بالشريحة الزمنية، ولا تتزامن الأحداث إلا إذا تعامد بُعدا هذه الشريحة مع خطّ المكان. ويكفيك أن تدخل إلى موقع (Time.is) على الإنترنيت لتجده يعرض الزمن الآن لأكثر من 7 مليون موقع أو خطٍّ زمنيّ.

إذا تجاوزنا اعتقاد أغلب الفيزيائيين أنّ الزمن ما هو إلا مجرّد وهم (تصوّر ذاتيّ أو فكرة في الذهن)! وأنّ الأشياء تحدث بغضّ النظر عن اتجاه سهم الزمن، لا أقلَّ إذن من الاعتقاد أنّ الماضي والحاضر والمستقبل مجرّد أوهام متخيّلة بسبب اختلاف مفهوم الآنيّة (التزامن بين الأحداث) من شخص (راصد) إلى آخر، أو حسب عبارة آينشتاين: الفاصل بين الماضي، الحاضر، والمستقبل هو وهم عنيد مستمر.  

ربّما لي سمولين في كتابه ((Time Reborn وقلّة آخرون فقط هم الذين يعتقدون أنّ الزمن حقيقيّ، وأنّه أعمق مؤشّر على طبيعة الوجود الأساسية.

الساعة، على هذا الفهم، ليست ما يلبس في اليد أو يعلّق على الحائط فقط، بل إنّ تسرّب الرمل من حجرة زجاجية إلى أخرى تتّصل بها من الأسفل ساعةٌ، ودوران الأرض ساعةٌ أيضاً، والذبذبات الثابتة للموجات الضوئية للذرّة ساعةٌ كذلك، حتّى احتراق سيجارة ــ على فرض ثباته ــ ساعةُ قياسٍ عند الشاعر نجم عريمش، إذ يقول:

- كم مضى من الوقت كي أشعل سيجارتي؟

- سيجارة!.

فالساعة ــ بحسب نظرية النسبية ــ هي (أيُّ شيءٍ يؤدّي عملاً دورياً منتظماً). وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه سابقاً: ماذا تقيس الساعات؟ فالإجابة المختصرة جداً: إنها تقيس الانتظام الدوريّ!. ولعلّ ما يميز ساعة اليد هو سهولة مشاهدتها دائماً لا أكثر، وإلا فهناك ساعات ذرّية عالية الدقّة ــ كساعة السيزيوم وساعة الروبيديوم ــ مقدار الخطأ فيها ثانية واحدة لكلّ 30 مليون سنة تقريباً.

وربّما لا يعلم الكثيرون أنّ الساعة (h) لم تُعتمَد كوحدة قياس للزمن في النظام العالمي للوحدات إلا على نحو المقبولية؛ لأنّها ليست دائماً 3600 ثانية، بل قد تكون 3599 ثانية أو 3601 ثانية، بفارق ثانية قفز موجبة أو سالبة، تُسمّى بالثانية الكبيسة، لتعويض التباطؤ التدريجيّ في سرعة دروان الأرض حول نفسها بفعل تأثيرات المدّ والجزر، وحيث أنّ معيار قياس الزمن ــ الأرضيّ طبعاً ــ هو افتراض الثبات المنتظم لسرعة دوران الأرض، ولمّا اتضح في منتصف القرن العشرين أنّ اليوم الشمسيّ في كلّ قرن أطول منه في القرن السابق بمقدار 1.7 مِلِّي ثانية (0.0017 ثا)، كان لا بدّ من إضافة ثانية واحدة كلّ أربع سنوات إلى التوقيت العالمي، بعد أن تمّت إعادة تعريف الثانية في عام 1967م وفقاً للتذبذبات المنتظمة لذرة السيزيوم.

قد يتساءل البعض: 

إذا كان الزمن مجرّد وهم، فلماذا نشيخ؟ نولد أطفالاً ثمّ نكبر ونكبر حتّى نشيخ. 

لماذا لا نستطيع أن نعيد الصفار والزلال المخفوقين إلى حالتهما الأولى داخل قشرة البيضة قبل الكسر فالخفق؟ كأنْ تتراجع الأحداث بخطوات إلى الوراء كما في الحاسوب بضغط (Ctrl+z).

فيجيب آخرون:

إننا نشيخ لأنّ سهم الزمن يتجه دوماً إلى الأمام، أي من الماضي إلى الحاضر ثمّ إلى المستقبل. ولا يمكن أن تتراجع الأحداث إلى الوراء وفقاً لنظرية الإنتروبي (Entropy) التي تقول إنّ التحوّل يكون من النظام إلى الفوضى ثمّ إلى الأكثر فوضوضية. 

غير أنّ ذلك ليس جواباً بالمعنى الدقيق، فمن يتأمّل هذين السؤالين يجدهما ينطويان على شيء من التوهّم في علاقتهما بالزمن:  

فأولاً: كون الزمن يجري باتجاه واحد أمر مفروغ منه، ولكن لا معنى لكونه يتجه من الخلف إلى الإمام أو من الأمام إلى الخلف، فالأمر نسبيّ كما أوضحنا؛ ولن يختلف الأمر كثيراً لو كنا في الماضي وأصبحنا في الحاضر وسنصير في المستقبل، عمّا إذا كانت الأحداث في المستقبل ثمّ التقينا بها في الحاضر وستنتقل إلى الماضي، ربّما لذلك علاقة بكون حركتنا في تقابل مع الزمن أو أنّ الزمن يتحرّك معنا.

وثانياً: أنّ الشيخوخة تحدث نسبةً إلى الزمن لا بسببه؛ فقد تحدث لأسباب فيزيولوجية في الإنسان والحيوان، أو لأسباب بيوكيمائية في النبات، أو بسبب نفاد الطاقة في بعض المواد، أو الإجهاد في الآلات، وهكذا، فعمر جزيئة الميوون (Muon) مثلاً 2.2 مايكروثانية، وهي تشيخ بسبب التحلّل أو الاضمحلال الإشعاعيّ.

الشيخوخة التي نعنيها هي الفشل في إنجاز العمل، وفي ما يتعلّق بالإنسان فالشيخوخة تحصل بلا فرق سواء كان الزمن باتجاه الأمام (طفل ــ شاب ــ عجوز) أم باتجاه الخلف (عجوز ــ شاب ــ طفل) كما في فيلم الدراما الخيالية (The Curious Case of Benjamin Button) المأخوذ عن قصة بنفس العنوان للأديب الأمريكي فرانسيس فيتزجيرالد، حيث يولد بنجامين عجوزاً بعمر الثمانين، ثمّ ينمو جسده عكسياً حتّى يموت وهو طفل رضيع. 

وثالثاً: إعادة البيض المخفوق إلى ما كان عليه ــ نظرياً ــ تحتاج إلى طاقة خارجية؛ فعند انتشار قطرة حبر في كوب ماء، وهذا ما يُسمّى بالإنتروبي، يمكن فصل الحبر الذائب عن الماء بتسخين المخلوط وتقطيره مثلاً. وإذا انكسر قدح زجاجيّ، يمكن إعادته إلى هيئته الأصلية بتجميع قطع الزجاج المتكسِّر، ثمّ صهرها ثانيةً وصبّها في القالب الأصليّ للقدح.

وقد كان عالم الكيمياء الفرنسي أنطوان دو لافوازييه ــ صاحب قانون حفظ المادة ــ يعتقد أنه في حال أحرق الثوريّون باريس وحولوها إلى رماد ودخان فيمكن إعادة تجميع تلك المواد من جديد وتحويلها إلى ما كانت عليه.

رغم كلّ ما قلناه؛ فـ(لا شيء يبعث على الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة.. الزمان؟) على حدّ تعبير الدكتور مصطفى محمود في كتابه (أينشتين والنسبية)، ولكن نعتقد أنّ هذه خطوة ضرورية لارتقاء سلّم الزمن لنحظى ببعض الفهم المقبول. في خطوات لاحقة سنتعرف على مفاهيم ضرورية أحرى مثل: الآنية، الشريحة الزمنية ونسيج الزمكان، وكلّها ستجعل ما قلناه أكثر مقبولية وأسهل فهماً.