محمد غازي الأخرس
لا لعنة مثل إجادة تفسير لغة الجسد بالنسبة للفضوليين من أمثالي. أعرف هذا جيداً وأعاني منه دائماً، فلدى صاحبكم شغف وأيّ شغف باكتشاف ما تخبئه الألسنة وتكشف عنه الأجساد. من حركة عابرة، يمكن أن أكتشف أنّ فلاناً لا يقدّرني حقّ قدري.
ومن نأمة تكاد لا تلحظ، يخطر لي أحياناً أن أحدهم يبجلني بفوق ما أستحق. من طريقة سير أحدهم، قد أحزر أنّه مكرود، أو محدث نعمة، وبعضهم بإمكانه تمييز الضابط من طريقة كلامه أو معرفة المدرسة من مشيتها صباحاً وهي تعبر الشارع.
لغة الجسد فضّاحة، وعند العشّاق، "الصبّ تفضحه عيونه.. وتشف عن وجدٍ جفونه".
ثمّ عدا العيون التي "تتلاكط" لاقتناص رؤية حبيب في محفل عام، قد يزحف جزء من الجسد العاشق ليكون أكثر قرباً من المعشوق، معتقداً أن أعين الآخرين أميّة في ما يخص لغة الأجساد، في حين أنّ الفراسة ملكة تفوق القراءة والكتابة في سرعة كشف المكنون.
هي فراسة عرفها العرب وقسّموها إلى قيافة وعيافة وريافة وغيرها. لكن ما يعنيني هنا هو إجادة فهم الآخرين عبر التفرّس في وجوههم وهيئاتهم وحركاتهم.
لقد نقل عن الإمام علي (ع) قوله، بهذا الخصوص، "ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه".
ووردت الفراسة في القرآن بقوله تعالى "إنّ في ذلك لآيات للمتوسمين"، وفسروا المتوسمين بأنّهم المتفرّسون المتأمّلون الذين كأنّهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة.
تجد نفسك في محفل مثلاً فتلحظ أن إحداهن "تحوص" قلقة، وإذ تراقبها ستكتشف لامحالة أنّ وجود محبوبها في المحفل قد أربكها، والحركات المسربة لهذا كثيرة، ضحكة أو حتى ابتسامة في لحظة ما قد تشي بالمكنون، حركة يد أو انفتاحة شفتين. كل شيء في الجسد يفضح صاحبه رغماً عنه.
اصفرار الوجه، حسرة لاإرادية تنطلق من قلب حزين، إطراقة خيبة، أو التفاتة عين سريّة. إنَّ الأمر لعجيب ويحتمل الكثير من الكلام، ولعل الجاحظ اختصره كلّه بالقول إنَّ "حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان".
ويذكر مثالاً على ذلك قول الشاعر: أشارت بطرف العين خيفة أهلها .. إشارة مذعور ولم تتكلم.. فأيقنت أنّ الطرف قد قال مرحباً..
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيّم.
مجرد "غمزة" بطرف العين أوصلت الرسالة، فماذا لو كانت هناك ملامة أو عتاب خفي؟
لا تخش شيئاً شيئاً أيها المتفرّس، فالعين تستطيع تسريب كلّ المشاعر، ورحم الله عفيفة اسكندر حين قالت: بعيونك عتاب.. وبكلبي جواب.. من بعد الغياب.. جاييني بعتاب، وللموضوع بقية.