بغداد: مآب عامر
خلال اتصالات هاتفية عديدة كانت تجريها أمي أذكر جيدا إنّني كنت أجلس جوارها أحاول إنجاز واجباتي المدرسية، وهي وسط المحادثة الهاتفية تبدو لي منهمكة في سير الحوار وتفاصيله، لكنها فجأة
ومن دون سابق إنذار أرى عيونها تتجه نحوي لتشدّ انتباهي، بعدها تبدأ يدها بالكتابة والرسم على الهواء، بحركات رشيقة دقيقة تُعلمني في كلّ مرة عن حاجتها إلى قلم وورقة وبسرعة، وبصورة آلية أقلّب الدفتر على ظهره وأعطيها لتدون ما تحتاجه، وغالبا تكون أرقام هواتف أو عنوانات أو معلومات تخصّ عملها، وفي النهاية لم تكن أبدا تعيد لي القلم والدفتر، بل تستمر برسم مربعات ومكعبات متداخلة ومتشابكة ليس لها نهاية تملأ الصفحة الأخيرة من دفتري، وبعد انتهاء المكالمة تعيد لي الدفتر، برسومات "الماندلا" خاصتها.. رسومات تحتاج إلى قراءة وبحث عن ما وراء كلّ خط وزاوية ونقطة داكنة.
وعن العلاقة الغريبة ما بين الانشغال بالحوار والانشغال بالرسم في ثنائية ملفتة للنظر قد يمارسها كثر من دون انتباه.
ويعدّ فن "الماندلا" بالأصل أحد الفنون الشعبية المتوارثة في التبت، ويستعمل حول العالم اليوم كنوع من العلاج النفسي لتفريغ الطاقات الكامنة بداخل النفس، ولكن بحسب المصادر فأنها تعود لكهنة التبت، إذ تعتبر "الماندلا" ما هي إلاّ وسيلة للتعبير عن ميتافيزيقية الإنسان، لذا يلجأ اليها الكهنة للاسترخاء والتأمل من خلال الرمال الملونة، حيث يجلسون لساعات وهم منشغلون بإعداد دوائر وأشكال متشابكة.. لذا فإن "للماندلا" أشكالا عديدة
منها المختلطة والهندسية، وكذلك "مانديلا" الحروف. ودائما ما نرى هكذا أعمالا في الأفلام الهندية، على الأخصّ في حفلات الأعراس والأعياد والمناسبات، حيث تُرسم على الأرض، أشكال متنوعة، ولكن المتبع دوما هي زهرة اللوتس التي ترمز إلى التناسق والتوازن، أما الشمس فهي ترمز إلى الكون والحياة والطاقة، بينما يمثل الجرس الحكمة والوضوح، والمثلث يدلّ على الإبداع والسعي وراء المعرفة فلكل شكل طاقته الروحية التي ترسخت تحديدا في ثقافات الهند.
ولكن في الآونة الأخيرة، حينما أشرت الحداثة وركزت على الراحة الايجابية، بدأ استعمال "الماندالا" يتسع بشكل كبير في اليوغا، كونها تحمل المُثُل القديمة نفسها، ممّا يدل على مساحة مقدسة للتخلص من التأثيرات الخارجية.
أيضا أتذكر تلك الأفلام الأجنبية والمسلسلات التركية التي يكون في داخل أحداثها أشكال "للمانديلا" موضوعة ومعلقة على حائط بجانب السرير، وعند حاولت البحث والتقصي اكتشفت أن الأمر يعود لحماية الفرد النائم من الكوابيس، مثل التعويذة، ويطلق عليها تسمية "صائدي الأحلام".
أما أنا فسابقا كنت أعتقد أنني قد ورثت هذا الطبع من والدتي، فحاولت التميز ظنا مني إنه فن تشكيلي، فاستمريت برسم العيون على ورقة، بلا نهاية، أما اليوم فقد وجدتها عادة ووسيلة وأن أغلبية الناس تلجأ إليها من دون وعي،
وخاصة مع وجود ورقة وقلم تحت أياديهم.. إن كنت تشعر بالتوتر ربما سينفعك الإمساك بورقة بيضاء وقلم، ومن ثمّ استمر بالرسم العشوائي ومن دون التفكير بجدية بما سترميه على الورق.. فهذا الشيء سيمنحك جزءا من الصفاء والسلام الداخلي.