رحلة من باب المُعظّم إلى مستودع {الهههاي}

ثقافة 2024/01/21
...

  هناء خليف غني

في إهدائه {مملكة الضحك} ذكر الرُّوائي خضير فليح الزيدي، الآتي: إلى الأرواح العراقيَّة التي سحقتها عجلة الانتهاك المسرفة على طيلة زمن الخراب المتواصل، وفي منطقة الباب الشرقي تحديدا، من ساحة الطيران حتى النفق، ومن البتاويين حتى ساحة الخلاني، ومن حديقة الأمة/ غازي حتى منطقة الفناهرة، أهديكم ما سجلته في رحلتي من باب المعظم إلى مستودع {الههههاي}. أما أنتم ياسكان المملكة الشرقيَّة، أعرف تماما أنكم لا تقرؤون المكتوب عنكم، فثمة آخرون يقرؤون سيركم".

إذنْ، هذا الكتابُ هو سيرة مكان يعرفه أكثريتنا، إذ مررنا به ذهابًا وإيابًا إلى مقاصدنا المتنوعة. في المستوى الشَّخصيّ، كُنت أرى فيه مكانًا ذكوريًا خالصًا يكاد يخلو من النِّساء اللَّائي إنَ ظهرن فيه، فظهورهنَّ عابرٌ ومؤقتٌ. 

والكتابُ، بتفاصليه واشتغالاته، يؤكد هذه الرؤية، إذ يتصدر الرِّجال المشهد كله، فهم الرُّواة الَّذين يسردون القُصص، بضمير الشَّخص الأول تارةً، وبضمير الغائب تارةً أخرى، وهم الممثلون الَّذين يجيدون أداء أدوارهم حينًا، ويُخفقون حينًا آخر، وهم أيضًا المُعلِقون على ما جرى ويجري فيها. وكما هو متوقعٌ ومعتادٌ في قصص مثل هذا، تشغل المرأة موقعًا ثانويًّا متواريًّا يتحكم الرجل في مساحته ومصائر شاغلاته. 

وليست مملكة الضِّحك النَّص الوحيد الَّذي خطه الزَّيدي عن المكان العراقي، فإضافةً إليه، هناك "أطلس عزران البغداديّ"، و"أبناء المكان": في معنى السُّكون والحركة أو سيرة مكان، وأيضًا "شاي وخبز: حكايات أنثروبولوجيَّة" الذي ذهب فيه إلى إضاءة تاريخ الطعام متمثلًا في الخبز والشاي متتبعًا تفاصيل الحكايات المقترنة بهما منذ سنوات الطُّفولة. 

وظف الزَّيدي في هذه الكتب لغةً وصفيةً مكثفةً ركز فيها على الهامشيّ في الحياة العراقيَّة، وحاول فيها التَّخفيف من وطأة مظاهر التَّدهور والابتذال الَّتي لم تدع شيئًا إلَّا طالته مستعينًا في ذلك كله بعُدةٍ سردية قوامها السُّخرية، والفكاهة، والنّكتة، والأمثال.

الكتاب مبني على رحلةٍ راجلةٍ جاب فيها الزَّيدي المناطق الممتدة من باب المُعظّم إلى الباب الشَّرقي لِما يفوق السَّتة أشهر طاف فيها شوارعها، وأمعن النَّظر في واجهات مبانيها ومحلاتها، وتحدث إلى السَّاكنين فيها، وولج أكثريَّة أماكنها بنوعيها المرئيَّة والمكشوفة في مقابل السِّريَّة والمتواريَّة، وتتبع التَّقلبات والتَّحولات الَّتي طرأت عليها منذ الحرب العراقيَّة-الإيرانيَّة وصولًا إلى الوقت الحاضر، معتمدًا في ذلك كله على قوة التَّركيز والملاحظة بالمشاركة، والوصف الأثنوغرافي المُكثف، والمقابلات غير الرَّسميَّة مع بعض الإخباريّين الَّذين أمدوه بالمعلومات، متبوعةً بقراءةٍ مستفيضةٍ لهذه الأماكن فيها الكثير من المفارقات المُضحكة والمبكية، وقدر لا يُستهان به من مخاطر التَّعرض للنشل والسَّرقة و"التقفيص" وما إلى ذلك.

استند الزَّيدي في بعضٍ من المعلومات الَّتي أوردها إلى الملاحظة والمعايشة الآنيَّة، فكان الرَّاصد للسلوك، والواصف للأوضاع والأحوال، واستقى بعضها الآخر من أفواه المُقيمين مع تعزيزها بقراءةٍ متأنيةٍ للمصادر والمراجع المعنيَّة بتاريخ هذه المنطقة. أما ما يخصُّ أسماء الأشخاص، والمحال، الَّتي تحتشد بها المملكة، فبعضها حقيقيّ، وبعضها قصصيّ طاله التَّحريف ابتغاء التَّملص من المساءلة والسُّؤال. ومن نافلة القول إنَ المناورة في اختيار الأسماء واردة في ظل غلبة الصبغة الأدبيَّة على مادة الكتاب. 

يُقدم "مملكة الضَّحك"، هذا النَّص الرِّحليّ، صورةً تنث بؤسًا وأسى عن الواقع المُعاش، إنَه عراق مُصغر، على وفق الرُّؤية التي تبناها الزَّيدي، يختلط فيه المضحك والمبكي في عرضٍ موحشٍ فاقعٍ في واقعيته. ويكتظ النَّص، بعد ذلك، بالكثير من المقاطع الوصفية عن أبنية المملكة، وشوارعها، وأسواقها، والأهم ناسها، مُقدمًا صورةً بانوراميةً مُفزعةً في الكثير من جوانبها، فيعمل كل ذلك مجتمعًا على تحويل المملكة إلى مكانٍ خاصٍ مختلفٍ لا يشبه غيره من مثل سوق مريدي، ولا يمت بصلةٍ لسوق العورة، أو سوق شلال، أو السُّوق العربي.      

يستهلُ الزَّيدي حديثه عن المملكة بوصف للملك أبي عقرب في أواخر أيامه المتهافتة المتهالكة، فهو سكيرٌ بلحيةٍ شعثاء وثيابٍ رثةٍ، السلطة تبخرت من بين يديه، وأيامه تحولت إلى "ههههاي" أليمة، وقهقهة فيها من المرارة ما يفوق الفرح ويغتاله. 

تدهور أحوال أبي عقرب وسوء حاله  ألقى بظلالهِ على المملكة، فهو، بطريقةٍ ما، مرآة للناس والأماكن حيث الرَّعية جلهم من الحشاشين، والضَّاحكين، والأوغاد، والباحثين عن اللَّذة، وحيث يعمل كل شيء بالمقلوب! ولا تختلف الشَّخوص التي يكشف عنها النَّص تباعًا عن أبي عقرب إلا ببعض الجوانب الثَّانوية؛ فهناك البلبل الطَّليق أو بائع السَّاعات السوداني، وحمادة الذي يُدير منضدةً (تُعرف بالجمبر باللَّهجة العراقيَّة الدَّارجة) يبيع فيه أقراص الإباحة، وجاسم أبو الليل بائع أوراق اليانصيب، وناجي بكارة الذي يُدير محلًا سريًا يبيع فيه أدوات الهوى والرَّغبة، وعادل كولا الَّذي تخلى عن عمله في مهنة التَّدريس في سنوات الحصار العجاف ليعمل في صنع البيبسي كولا المحليَّة، وعمران سلبوحة الرَّفاء، وطاهر الأبرش أبو الغلمان، وحميد قمر، شيخ النَّشالة الَّذين لا يُعرفون باسمائهم، بل بأساليب عملهم، فهناك السَّاقوط، والحصاص، والخافور، وغيرهم. 

والزَّمن في المملكة يتآكل ببطء قاتلٍ، فهو كالطلل تعبثُ به الريح، والأمطار، وشمس الصَّيف. إنَه زمن علاجه حبة السَّعادة وكبسولة الابتسامة من "الههههاي"، تتبعها بملعقةٍ صغيرةٍ من شراب الضَّحك المر، وحقنة في العضلة من عقار "الهههههاي" المستحدث لتفادي أثار الصَّدمات المميتة والحروب القاتلة! إنَه زمن القلق والخوف، وزمن الابتسامة والضحكة المغصوبة. في الضَّحك وحده نحيا، والكآبة داء سرطاني ضد تهافت الزَّمن. "مملكة الباب" هي عراق مُصغر آخر، بعد أنَ توسعت وامتدت حتى كاد البلد كله يُصبح الباب الشَّرقي. إنَه عصر الباب المُتمدد. عصر القهقهة و"الهههههاي". 

"مملكة الباب" منطقةٌ شهيرةٌ يعرفها كل عراقي، ويجهل خباياها من هو خارجها؛ بل يعدَها بعض من وقف على تخومها قرب مأكولات سمرمر من الأماكن الخطرة والمريبة، ومصدرًا لروح النُّكات المُستفزة والجريحة، ومدرسةً للنشل ومنتجعًا للإباحة، إذ يفوق عدد السُّراق المسروقين، والمُحبطين واليائسين أكثر من المتفائلين. 

والأماكن التي وصفها الزَّيدي في رحلته تفوق الحصر. 

ولهذا السَّبب، ربما الأوفق لنا، لضيق المساحة، الاكتفاء منها بالمقهى، مع إمكانية الرجوع إلى النَّص لمن يروم الاستزادة. في المقهى رواد من كل حدبٍ وصوبٍ، ومن شتى الأصناف والمشارب، وهو موزع على شعبٍ وأقسامٍ، فهناك قسمٌ يشغله الحشاشون، وآخر النشالون وتلاميذهم الصغار، وثّمَّ قسمٌ مُخصصٌ للحلوين يجاوره قسمٌ لفرز المسروقات وبيعها "طﮔة نازل"، وإلى جانب ذلك، ثمَّة شعبة للمخمورين، وأخرى للهاربين من الخدمة العسكريَّة، وفي هذا التَّنوع في المهن، والحِرف، والمرتادين إنعاش للمقهى وضمان لبقائه. 

أمَّا النَّسيج البشريّ في "مملكة الضحك" فمتجانس متنافر بشكلٍ يدعو للتعجب، فهو خليطٌ من ماركسيَّين، وبعثيّين، وإسلاميّين، متصوفين، ودعاة فقراء، وعيارين ظرفاء يفترشون السَّاحات لبيع الخرز، والسَّاعات، والملابس المستعملة، والتُّحف، واللُّقى، وأجهزة التَّسجيل العملاقة وأشرطة الفيديو. ولا يخلو المكان من الهاربين المُتخفين الذين لا هويَة لهم أو ما تبقى من شقاوات بغداد الغيارى الَّذين اختاروا سبيل التَّواري عن الأنظار بعد أنَ سحقتهم عصابات مُتحزبة. وهناك ما تبقى من سوادنيي الباب من بقايا حقب القوميَّة الواحدة يحترفون بيع الحقائب الدبلوماسيَّة والسَّاعات. يعيش هؤلاء ويتواصلون في جهةٍ غير معلنةٍ في منطقة الباب على الرغم من استشراء البطالة، والقحط والملاحقات المستمرة وحملات الشُّرطة المنظمة لابتزازهم. 

الحياة في المملكة نكتةٌ عراقيَّةٌ خالصة، مضحكة لكنها توخز شيئًا ما في داخل النَّفس. والعالم هنا مجنونٌ كليًا يشبه نكتةً قاتلةً ومميتةً. إنَها تلك النُّكتة الَّتي تتفشى، وتُنقل إلى أجهزة السُّلطة، فيُعدم قائلها وناقلها والضاحك منها في حين ينجو مؤلفها الذي يبقى مجهولًا. الحياة هنا قهقهة و"ههههاي" طويلتان ومجلجلتان في أرجاء حياة يتردد بين جنباتها صدى النُكات المتواصل. 

وفضلًا عن ذلك، يمرُ الزيدي في رحلته على الأقبية السِّريَّة التي كثرت الشائعات عن استخدامها في إنتاج منظومة إلكترونيَّة للصواريخ، وعلى سوق البالة الذي يُشبهه الزَّيدي بالحياة. فالحياة في المملكة ليست سوى بالات تفوح منها رائحة تعفير الملابس المًستعملة، ويشرح له أشهر بائعيها المعروف بـ "شوقي بالة" أنواعها، وطقوس بيعها، وزبائنها. ولبيوت الدَّعارة حيث تلتهب الرغبات في المملكة نصيبها من سرد الزَّيدي إضافة إلى محال الاستنساخ، وسلالم النَّفق، ومواقف السَّيَّارات. 

إمَّا الحياة في خارج حدود المملكة فليست سوى لعبة أطفال عبثيَّة، هذا ما يظنه أهلها الذين لا حديث لهم سوى عن الاعتقالات والتَّفجيرات، والانقطاع المتكرر للكهرباء، والحر الشَّديد، والأتربة الثَّقيلة. إنه بلد الأرواح المسحوقة الَّتي وجدت نفسها مُجبرة على المشاركة في برنامج كاميرا خفيَّة متواصلة.

ومع التَّفاصيل الكثيرة والغنيَّة الَّتي زودنا بها هذا النَّص الرَّحلي، إلا أنَي لاحظت عليه جملةً من الأمور المتوقع بعضها، والمفاجئ بعضها الآخر. 

فالنَّص أجمالًا توكيد للفكرة السَّائدة عن المكان بوصفه حيزًا ذكوريًا خالصًا، لا مكان للنساء فيه مُضافًا إلى غياب النَّاس العاديّين الذين يحيون حياةً طبيعيَّةً، ويمارسون أعمالهم بأسلوبٍ يشي بتطلعهم إلى حياة أفضل. هؤلاء لا مكان لهم، إذ مال النَّص إلى التَّركيز على الهامشيّين المقيمين في القاع الَّذين يغلب على مفهومهم للحياة اللاهدفية واللاجدوى. 

إذ هم إمَّا ورثة ماضٍ أثقل كاهلهم وتركهم يمورون في لجة شظف العيش والبؤس، وإما عبثيّون يكتفون من الحياة بأن يعيشوا يومهم ولحظتهم. وإلى جانب ذلك، ثمة ما يدعو للعجب في إقصاء بعض الأماكن مثل المستشفيّات، والجوامع، وقاعات الفن، وحتَّى السِّينما الَّتي أتى الزَّيدي على ذكرها عددًا من المرات، لم تكن سوى أطلالٍ شاهدة على ما آل إليه الحال.

وبالمثل غابت مظاهر الحياة الثقافيّة، والطقوس الاجتماعيَّة التَّقليديَّة عن عين المؤلف الرَّاصدة، وغاب الضُّحك إيضًا، إذ حل محله البكاء والتَّفجع والتَّحسر. وثُمَّة فئة من المجتمع كان حظها من السَّخرية والتَّهكم أوفر من غيرها، هم أهل الجنوب الَّذين ظهروا بمظهر السُذج الَّذين يسهل استغفالهم واستدراجهم على يد القفاصة والمحتالين. وصفوة القول: هذا النَّصُ شاهدٌ على زمنٍ ساده الخراب، والإفلاس، والتَّحشيش الموحي والدَّال.