موت الأب بين الوهم والحداثة

ثقافة 2024/01/21
...

  عادل الصويري


بتجربة شخصية بسيطة، جسّد الأديب الروسي الشهير (فيودور دوستويفسكي) في بعض أعماله الروائية فكرة (موت الأب)، والتي سرعان ما تحولت إلى نظرية انتشرت في أوساط الكتاب انتشار النار في الهشيم، من دون أن يتم تحليلها بشكل جدي، والتوصل إلى حقيقة أنها انعكاس لتجربة شخصية عاشها الأديب الروسي، وأثرت فيه نفسياً، وانعكست على كتاباته الأدبية حتى أن فرويد قال: "كل مرة أنتهي من كتابة بحث عن حالة نفسية، أجد دوستويفسكي قد كتب عنه في رواياته". 

وثمة من يعتقد أن فكرة موت الأب جاءت كوجه آخر لموجة ما يعرف بالإلحاد الوجودي بعد أن تم التقديم له من الوجه الأول الذي عُرِفَ بـ (موت الرب).

لو أردنا رصد انعكاسات هذه النظرية على الواقع الفكري، من زاوية الحداثة وتداعياتها، لجاز لنا أن نسأل: هل هل يعقل أن تكون تجربة شخصية مريرة لأديب مع والده المدمن على تعاطي الكحول، والممارس لكل صور التسلط على أبنائه أنموذجاً يتم تعميمه على مجمل التجربة الإنسانية؟ والسؤال الأهم: هل عاش متبنو هذه النظرية وكتبوا فيها منجزاتهم الأدبية مع آبائهم، ذات التجربة التي عاشها (فيودور دوستويفسكي) مع والده؟

يبدو أن عملية التعاطي مع الأفكار، وتحويلها إلى أعمال أدبية، صارت اليوم شبيهة بالتعاطي السريع مع صيحات الموضة وقصات الشعر، فهذا النوع من التعاطي العشوائي مع الأفكار سيقود حتماً لمزيد من الأوهام التي تنتشر في جسد النصوص الشعرية والسردية، التي لن تنتج بالنهاية غير زيادة في مساحة التخبط البشري، الذي سيتم التأصيل النقدي له، وتصديره على أنه أثر مهم من آثار الكتابة العالمية الحديثة. 

وأكبر الأوهام التي تصدرها هذه النظرية؛ هي أنك أيها الساعي للتحرر والتجديد لن تجد لك مكاناً في التاريخ ما لم تتخلص من سلطة الأب، وسلطة الأب هنا تمثل عبارة فضفاضة تنفتح على عدة تأويلات، فقد يكون الأب هنا الأب الديني، أو الثقافي، أو التاريخي... الخ، وبهذا تتعرض الخصوصية لنوع من الإقصاء الممنهج عبر مراحل مبرمجة لتوجيه الإنسان، وهو ما يذكر بفكرة سيكولوجية الجماهير لـ (غوستاف لوبون) وتقسيمه لخصائص الجمهور حيث سرعة الانفعال، واللاوعي الذي يحركه، فضلاً عن سرعة تأثره بالظواهر الغريبة، فالجمهور ــ بحسب لوبون ــ "عبد للتحريضات التي يتلقاها"، وكذلك في النزعة العاطفية التي تصل به لحد الاستبداد رافضاً النقد والتشخيص بحيث تقبل أو ترفض الوافد والجديد من الأفكار دفعة واحدة، وهنا مكمن الخطورة على مستقبل الفكر الانساني. 

ونظرية (موت الأب) وفرضها أو محاولة فرضها كنسق يحرك الكتابات والأفكار؛ ستأتي بثمار فكرية غير ناضجة، تؤكد حالة الاغتصاب الثقافي الممهد لاغتصاب العقل وتجميده ومنعه من ممارسة دوره في التفكير الذي يتداول مكونات الفكر، ويتعاطى معها بحرية، فمن غير المنطقي الجزم بأن الأنماط الحداثية لا تقوم إلا بنسف الثوابت بأنساق يمكن أن يُطلق عليها وصف (الحداثة القبلية)، وكأن متبني هذه النظرية وشبيهاتها عصبة تمثل معادلاً يقف بإزاء جماعات أخرى غير متفقة معهم، وكل من يحاول الخوض في هذا النمط من التفكير، ورصد سلبياته، وتحليل أسبابها وتشخيصها؛ فإنه خارج على "المِلّة الحداثية".

إن هذا النمط من التفكير وإن بدا أنه يدعو للتحرر من نزعات الإيديولوجيا؛ فإنه في ذات الوقت يؤسس لأدلجة من نوع جديد على مقاساته هو، والتي ليس بالضرورة تكون منطبقة على كل مساحة العالم الانساني، وبعد فترة من الانطفاء المفاهيمي لهذا النمط؛ يعود مروجوه لإنتاجه بتسمية أخرى مع المحافظة على هدفه الرئيس المتسبب في فشله، وعدم فاعليته وواقعيته.