وثائق الشعر الصادقة

ثقافة 2024/01/22
...

  د. كريم شغيدل

تفرّد الشاعر عبد الزهرة زكي بالاشتغال الشعري على أنموذج ضحية، قلما تطرقت إليها القصائد، وكتب عدداً من القصائد التي تجسد نمطاً من العنف ساد في حياتنا اليومية، ونقصد عمليات الخطف، فقد ضمت مجموعته الشعرية (شريط صامت/ نصوص عن السيارات والرصاص والدم)، قصائد (المخطوف، وأسئلة المخطوف، وإليها.. من قبو الخطف، والابن المخطوف)، يقول في قصيدة (أسئلة المخطوف):
في هذا القبوِ
يمحو الظلامُ كلَّ شيء.
هل ثمة جدران؟
هل ثمة بابٌ وشبّاك؟
هل ما زالت الشمسُ
تشرقُ وتغيب؟
ينطلق النص من المكان بصفته السفلية السرية المعتمة (القبو) مقترناً بالظلام الذي يمحو كلَّ شيء، ويكون فعل المحو منطلقاً لأسئلة تبدأ من صفات المكان المحدد إلى الكوني الدال على الوجود وحركة الزمن التي تبدو ممحوة هي الأخرى داخل القبو/ الذاكرة، أي ذاكرة المخطوف، حيث تتدفق الأسئلة بحركة دلالية من المكاني إلى الزماني، من الشخصي إلى الوجودي، من الأرضي المحدد إلى الكوني المفتوح، وظاهرة الخطف بهذه الكيفية هي ظاهرة جديدة على المجتمع العراقي، فإذا كانت عمليات خطف مارستها السلطة السابقة استهدفت معارضين فهي محدودة جداً قياساً بعمليات الاعتقال العلنية التي كانت تمارسها، حتى في حقبة التسعينيات على أيام الحصار الاقتصادي التي اقترنت بها جرائم التسليب والسرقة، لم تسجل الوقائع حالات خطف، فنحن أمام حالة جديدة لها أجواؤها الخاصة، وقد تباينت أسبابها بين السياسي والابتزاز المادي، من هنا كان على الشاعر أن يجسد الصورة المعتمة ويتقمص ذهنية الضحية، ليحاكي أسئلتها الغريزية أولاً، بعدما شحن أجواء النص بحركة يمكن وصفها بالزوالية، فالظلام يمحو كل شيء، إذاً نحن أمام عالم يتم محوه، ظلام يجتاح المكان ولم يبقِ احتمالاً ممكناً لتخيل جدران أو نافذة أو باب، ويواصل الظلام حركته حتى يبلغ الفضاء الخارجي، ومع بلوغ هذه الصورة الشعرية المتنامية ذروتها بسؤال الحركة الكونية للشمس، ترتد الحركة الدلالية إلى الذات الإنسانية في أسئلتها اليومية البسيطة في ظاهرها والعميقة في مدلولها الإنساني الوجودي وذلك بقوله:
هل ثمة أحد يتألم على أحدٍ
ويشفق عليه؟
هل ثمة يدٌ    
تحنو
لتمتدَّ إلى يدٍ تحتاج إليها؟
هذا النوع من الأسئلة الإنسانيّة هي انعكاس لحالة اليأس والنكوص التي يعيشها المخطوف، هي أسئلة استنكاريّة تبحث في العمق الإنساني، لأنه يعيش لحظته تحت وطأة علاقة عدائيّة تربط الآخر به، والآخر في قرارة تكوينه الاجتماعي والنفسي والتربوي والثقافي هو إنسان يتألم على أخيه الإنسان ويشفق عليه ويمد له يد العون، لا أن يخطفه ويرهبه ويغيّبه في ظلام قبو ليساوم على حياته مقابل المال، ثم يعود النص لحركته الزمانية" هل ما زال ليلٌ؟/ هل ثمة نهار" ثم يسترسل بأسئلة يغلب عليها الطابع الوجداني العاطفي باستعادة صور الطفل والزوجة والأم والناس في حركتهم اليومية حتى يصل للسؤال بشأن وجود الموت، والنوم واليقظة والإفطار، ثم يعود للدلالة الزمانية "لكنَّ الساعة لم تزلْ في يدي/ بينما الظلام يمحو كلَّ شيء/ في هذا القبوِ" وسرعان ما يعود النص للمكان لتكتمل دورانيته الدلالية بسؤال استنكاري "هل أنا حقاً في قبو؟" ونجد أن البناء الاستفهامي للنص جعله مفتوحاً ومتحركاً يتنقل من القبو إلى الفضاء، ومن الذات إلى الآخر، ومن المكاني إلى الزماني، ولمسلسل الاغتيالات العشوائية التي استهدفت العديد من الأبرياء نصيب من التوثيق في مجموعة الشاعر عبد الزهرة زكي (شريط صامت) إذ يقول في قصيدته التي حملت عنوان المجموعة:
استدار القاتلُ سريعاً
عكسَ السير.    
يدور الشريط صامتاً في المسجل.
وتمرّ السياراتُ بصمتٍ.
فيمرّ، بصمتٍ، منصرفاً    
عن عابرين يتفادون النظر إليه.
المسدس باردٌ بين فخذيه.
وعلى ضبابِ المرآةِ شبحٌ يتلاشى
لقتيلٍ مرميّ وحيداً على الرصيف.
وهذا النص الذي جاء مكثفاً في لغته ومقتصداً في حركته لتجسيد مشهد يومي، أراد أن يوصل بالدرجة الأولى رسالة توثيقيَّة، بدلالات بليغة، من دون صناعة شعريَّة لافتعال صور متخيلة، أو لغة فجائعيَّة تحاول تحريك المشاعر، وهنا تصبح مهمة الشاعر معقدة في محاكاة الحدث بمنحى محايد، بمعنى آخر، إنَّ الشاعر تعمَّد ألا يتبنى موقفاً سياسياً أو أيديولوجياً، ولم يترك لعاطفته منفذاً وجدانياً أو غنائياً، إنما أراد الاكتفاء بالوثيقة، ليحقق معادلة (الشريط الصامت) فالقاتل يستدير عكس السير كناية عن كونه شخصاً خارجاً على القانون، يدور الشريط صامتاً كناية عن فراغه الفكري والإنساني، وتمر السيارات بصمت كناية عن سلبية المجتمع الذي أصبح عاجزاً عن ردع مثل هذه الأعمال، فيمر القاتل بصمت منصرفاً عن أشخاص يتفادون النظر إليه كناية عن هيمنته وسلطته التي اكتسبها من صمت الآخرين الذين يتفادون حتى النظر إليه خوفاً من سلطة السلاح المكنى عنها بعبارة (المسدس بارد بين فخذيه)، بينما يتلاشى شبح القتيل من المرآة حيث انطلاق القتيل حراً طليقاً وسط صمت يبدأ من الشريط مروراً بالناس وينتهي بالقتيل الملقى وحيداً على الرصيف، وبهذه الكنائية يكون النص أقرب إلى لغة النثر منه إلى الشعر، وفي الوقت ذاته يكون قد اكتسب شاعريته منها، لأن القصد الشعري جاء مبنياً على فكرة توثيق الوقائع اليومية، بقصد أن يكون الشعر وثيقة مسكوت عنها تاريخياً، لا أن يحل محل
التاريخ.