ثنائيَّات الموت والحياة في النكبة الفلسطينية

ثقافة 2024/01/22
...

  رولا حسن

تعود رواية "الطنطوريَّة " للمصريَّة رضوى عاشور إلى الواجهة مرة أخرى، والصادرة في القاهرة عن دار الشروق 2010، ليس فقط لأنّ أحداثها تتكرر الآن في غزة وكل فلسطين، بل لأن الإعلان الصادر عن "جائزة فلسطين العالميَّة للآداب"، والخاص بإطلاق حملة دوليَّة لقراءة رواية عاشور بثلاث لغات هي العربيّة والانكليزيّة والفارسيّة متزامناً مع جريمة الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الثاني للعام 2023، إذ يعيد إلى الذاكرة وبطريقة أكثر دمويَّة ما ارتكبته الصهيونية من مجازر في الطنطورة، وكفر قاسم وبقية أراضي فلسطين.
تروي "الطنطوريَّة" سيرة عائلة رقية، واقتلاعها من أرضها على يد عصابات "الهاغاناه"، وترصد من خلال تلك الأحداث، الرحلة التي قطعتها هذه العائلة ما بين عامي 1947، وهو العام السابق على النكبة وقيام اسرائيل، وعام 2000، والأحداث التاريخيَّة التي رافقتها.
وذلك بعد أن ظلت تتساءل ما الذي تنتظره رقية تلك اللاجئة الفلسطينيّة التي أخرجت منها لجنوب لبنان بعد مجزرة الطنطورة عام 1948، وتعيش فيها حتى عام 1982، ثم تشهد مجزرة صبرا وشاتيلا، قبل أن تمكث قليلاً وتعبر بعدها الصحراء ثم تطير إلى الإسكندريَّة لترد في ذاكرتها حكاية عابرة من بين آلاف الحكايات التي تمر عليها كل يوم، ومن ثم تضيع وسط زحمة الحياة وهمومها.
الملفت هنا أن الرواية تستعيد الكثير من الأحداث، والوقائع التاريخيّة التي تتشابه مع واقع الحرب الدائرة الآن في غزة وباقي المدن الفلسطينيّة.
فعبر أربعة أجيال توثق الكاتبة معظم مراحل تاريخ النكبة الفلسطينيّة من خلال حكاية امرأة تنتظر على محطة قطار، وبينما هي تنتظر يمر شريط حياتها بالكامل، ثمَّ جلست إلى دفترها لتكتب كل شيء، وكل ما حدث التهجير القسري، وفقدانها لوالدها وشقيقها والموت الذي لم تتقبّله والدتها، وهروب الزوج والابن إلى مصر وعيشهما هناك بعيداً عن الأعين، هزيمة جيش الإنقاذ العربي الذي عقد الفلسطينيون كلَّ آمالهم عليه، ثمَّ اللحاق بأسرة العم في صيدا اللبنانيَّة لتبدأ معاناة من نوع آخر اسمها الوجود الفلسطيني في لبنان، ومن ثمَّ القمع الذي تعرّض له الفلسطينيون من قبل الجيش اللبناني في الخمسينات تحت يافطة اللجوء المؤقت، وتصاعد العمل الفدائي إثر نكسة 1967، واتفاق القاهرة عام 1969، نقل قواعد العمل إلى لبنان بشكل تام عام 1970، بعد الخروج من الأردن إثر معارك ما يعرف بأيلول الأسود، الاحتقان السياسي الذي أدى إلى اندلاع الحرب الأهليّة، المجازر وحرب الفنادق وانقسام بيروت إلى شرقية وغربية، ليتوج هذا كله باجتياح اسرائيلي مدمر للبنان عام 1982.
تحملنا الرواية إلى مكان نتعايش فيه مع كل ما يدور حول المقاومة وصراع البقاء وتحدّي ما يجري على أرض الواقع، ولا سيما ممارسات التهجير والقتل تلك التي لم تتوقف اسرائيل لحظة واحدة عن ممارستها، الأمر الذي عكسته الرواية عبر صور مريعة لمجازر الطنطورة، وصبرا وشاتيلا، وصولاً إلى مجزرة مدرسة الأطفال في صيدا.
تنقل عاشور كل أحداث الرواية على لسان رقية الطنطوريَّة، فهي الرئيسية من بدايتها وحتى نهايتها بالرغم من ظهور راوٍ آخر، وعلى وجه التحديد في اللحظة التي تحكي فيها رقية عن نفسها باستخدامها ضمير الغائب، أو ضمير الشخص الثالث بحسب
النقاد.
يعد ضمير الغائب من أكثر الضمائر تداولاً بين السراد، وأيسرها استقبالا لدى المتلقين، فهو وسيلة صالحة لأن يتوارى خلفها السارد، فيمرر ما يشاء من أفكار وآراء من دون أن يبدو تدخله صارخاً، أو مباشراً، فالسارد يصبح وكأنه مجرد راوٍ له الأمر الذي يساعد في فصل زمن الحكاية عن زمن الحكي من الوجهة الظاهرة على الأقل، حيث يبدو زمن السرد مفصولاً عن الكاتب سابق عليه والأمر هنا مجرد خدعة سرديّة وتقنيّة روائيّة، برعت عاشور من خلالها في التعامل مع الزمن الذي هو زمن الكاتب وحده قبل كل شيء.
لقد جاءت الرواية مكثفة حتى أنّنا نجد أنفسنا منغمسين مع كل ما يسرد، وكأنّه يجري الآن عبر قراءة تاريخ شعب بكامله من خلال معاناة عائلة رقية الطنطوريَّة كرواية لم تشابه سياق غيرها من الروايات، فقد اعتمدت خطا سرديا واضحا، وذلك من خلال الجمع بين ما هو حقيقي من أحداث تاريخيَّة موثقة على مدى سنوات، هي سنوات امتداد النكبة، وحتى الآن، وبين ما هو خيالي متمثلا في الشخصيات كرقية، وأفراد عائلتها، وما جرى لهم من أحداث، وما عانوه خلالها.
لقد اعتبرت "الطنطورية" مرجعا مهما من بين التي انشغلت بتوثيق الأحداث المؤلمة للشعب الفلسطيني على مدى نصف قرن، وما يزال، وذلك كون المؤلفة اعتمدت في ذلك على محورين رئيسين يبدآن من ثنائية الموت والحياة إلى ثنائية اليأس والأمل، وعبر تصاعد الخط الدرامي للأحداث التي ظلت ترويها البطلة رقية انطلاقاً من عمر 13 إلى 77، ظل السرد يجنح نحو الخيال حينا لكنه ظل في الغالب يميل أكثر إلى درجة عالية من
الوقائعيَّة.
تذهب رقية ورفيقاتها وجاراتها إلى الحدود الفاصلة ما بين لبنان وفلسطين، لم تمنعها الأسلاك الشائكة بالحديث مع فتاة وشيخ من الطنطورة، ليفاجئها ابنها حسن وعائلته ورقية الصغيرة التي أنجبتها زوجته قبل أربعة أشهر، رقية الكبيرة التي شاخت تحمل حفيدتها بعد تمريرها من السياج، ثم تخلع من على جيدها الحبل الذي تعلق فيه المفتاح الدار التي تهدمت، وتضعه حول رقبة الرضيعة.
تمثل رقية المرأة الفلسطينية في تعاطيها مع يوميات اللجوء والتمسك بالمقاومة كخيار وحيد، ولو بالإصرار على إنجاب المزيد من الأطفال، وهي عبر توالي فصول الرواية نعرف أن تقديم المفتاح لرقية الصغير هو الأمل بالجيل المقبل في أن يكون قادرا على المقاومة واستعادة حريته وأرضه، وكأن عاشور تنبّأت بعين الروائي بأحداث 7 تشرين الأول كبداية لاستعادة الأمانة التي وضعت رقية الجدة مفتاحها في رقبة رقية
الحفيدة.