عبد الهادي مهودر
من المفارقات التاريخية أن يكون السكّر محرّكاً للصراع الدولي والاستعمار القديم قبل النفط، وأن يكون له طعمٌ مر وتاريخٌ أسود، والولايات المتحدة واحدة من القوى التي جذبتها حلاوته التي لا تقاوم حين كان السكّر للأثرياء عنواناً للعبودية قبل أن يصل الى عامة الناس والفقراء ويتحوّل الى العدو الابيض رقم واحد، ولم يكن العراق حينذاك دولة (سكّرية) والحمد لله ، بل لم يكن دولة بالأساس، كذلك الولايات المتحدة كانت محتلة من قبل حليفتها الحالية بريطانيا، لكن الأيام تدور وتنال امريكا استقلالها من المحتل البريطاني، ثم ينال العراق استقلاله من المحتل البريطاني ايضا، ونبدو وفق الحقيقة التاريخية كبلدين محررين من احتلال واحد هو الاحتلال البريطاني القديم، قبل أن تصبح قوة احتلال، وسبحان الذي جمعنا مرة اخرى بغير ميعاد!
وعلى هذه الارض تصارَع الامريكيون مع البريطانيين ردحاً من الزمن، لانتزاع هذا البلد من قبضة الآخر، حتى اتفقوا على أن على هذه الأرض ما يستحق الاتفاق، واصبح لأمريكا اليوم أعداء واصدقاء في العراق، كما لأية دولة اخرى ذات نفوذ وملائكة وشياطين، ومع بدايات اكتشاف النفط، توجهت امريكا الى منطقة الشرق الأوسط ، وكنّا حينها ولاية تحت حكم السلطة العثمانية، أو الخلافة العثمانية أو الاحتلال العثماني، سمّه ما شئت فهكذا نحن على طول الخط حتى في أيام صراع الامبراطوريتين العثمانية والفارسية، نرى كل امبراطورية هي حامية الدين والرعية، كما يقول العلّامة علي الوردي، وكذلك في جميع العصور والقضايا الكبيرة والصغيرة تحتلنا المواقف المسبقة أطول احتلال.
وفي جميع مراحل علاقات الولايات المتحدة مع العراق، لم يكن النفط هو مصدر الجذب الوحيد لكنه كان النظرة الأولى والمعاهدة الأولى مع الدولة العثمانية، التي حصلت فيها الولايات المتحدة على امتياز التنقيب عن النفط ، ومن يومها لم يثبت للعراقيين قرار موحّد حاسم في التعامل مع أمريكا، وهناك من يريد أمريكا صديقة ومن يريدها عدوّة ، ومن يريدها عند الحاجة او نص ستاو، ومن يريد مقاومتها سلمياً ومواجهتها بالدبابات الصديقة للبيئة، مع أن مثل هذا الملف هو من اختصاصات الحكومة، وموقفها الرسمي الأكثر واقعية الذي أكده رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في منتدى دافوس وملخّصه (الانسحاب مقابل العلاقات الطبيعية المتكافئة)، و إذا كانت التباينات حادة في المواقف، فالأهم هو عبور هذه العقدة الكأداء بما يحفظ البلاد والعباد.
ولم تسجّل للعلاقات العراقية- الامريكية فترة استقرار وثبات او قطيعة دائمة وبقيت على طول الخط في حالات مد وجزر وقوة وضعف وحب وحرب ولعب وجد، و لو يعود كل عراقي الى أرشيف قاموسه الشخصي والسياسي المتناقض فأمريكا في ادبياته ومواقفه المتقلبة هي أمريكا العدوة وأمريكا الصديقة وأمريكا الضرورة وأمريكا المحتلة ، مع أنها هي نفسها أمريكا بشحمها ولحمها وجبروتها وهيمنتها وبوصلة مصالحها، والمشكلة أن خيارات العراقي صعبة ومكلفة وأحلاها مرّ، يريد دولة قوية مستقرة، لكنه يحتج حين تنفّذ القانون عليه، يريد جسماً رشيقاً بلا كرش لكنه لايمتنع عن الإفراط في تناول الأكلات الدسمة، يصاب بداء السكري ولا يكف عن تناول الحلويات ثم يطلب الشاي مع قليل من السكّر.