هل رحل صاحبُ نصب الحريَّة؟

ثقافة 2024/01/23
...

  خضير الزيدي 


لا يمكن اقصاء جواد سليم في أي نقاش يتناوله دارسو تاريخ الفن العراقي، وتكمن أهمية اسمه من خلال تجديد خطاب الفن العراقي المعاصر أولا، والاهتمام بالتّراث البغداديّ والتمسك بالفن الرافدينيّ. فما قدمه من توظيف وتمثيل لإتجاه جمالي وتعبيري عبر أعمال النحت والرسم كان مناسبة للتذكير به وبفتوحاته الفنية ودراسته والاطلاع عليه في كل مرحلة من مراحل البحث النقدي والأكاديمي. نعم يأخذنا الحديث لأهمية منجزه وما وصف بالريادة والرسم الحديث وما تم كشفه على يديه من قيم جماليّة وتعبيريّة اتضحت لنا أنه مسكون بإرث التاريخ القديم وقدرة استلهامه للشعائر والطقوس، وتأكيدها من ضمن آليات فن تشكل بإحساس مرهف وصياغة تعبيريّة أكثر طلاقة بما يقدمه غيره من مجايليه.. فما الذي جعلنا نحب جواد سليم؟ هل لأنه صاحب نصب الحرية وتمثال الأمومة، أم كونه صاحب الرسومات التي تتغنى في محلات بغدادية ذات عراقة؟ ها نحن نعيد التذكير بمنجزه في ذكرى وفاته؟ لنؤكد بأن دهشتنا باسم جواد سليم لها أكثر من اعتبار، أولهما طريقة التجديد في الرسم والتخطيطات ورؤيته في إنجاز تكوينات تمتلك خزائن معرفة ومهارة بعيدة عن أية انتكاسات وتشويه فني، وثانيهما العودة إلى الموروث الشعبيّ والفن السومريّ، وقدم هنا أعمالا لم تزل في ذاكرة المتلقي، بالإضافة إلى كيفية مواجهة الحداثة الغربية ضمن محيط إنساني ملتهب بالطقوس والشعائر والإرث التراثي الشرقي، وهي معادلة صعبة أن يتم التوافق بينهما من دون إنجاز أعمال ترضي الآخر، وأيضا وجد أن تنامي احساسه في التعامل الموضوعي الجاد لا يدفع به إلى مناطق الحداثة من دون العودة للأصول. وأقصد هنا النحت السومريّ والاشوريّ مستفيدا من دروس النحت في باريس عام 1938، وفي روما عام 1940، فجواد لم ينكمش في تيار معين، بل تعقب مراحل فن الغرب واعاد بخطاه الواثقة إلى مناطق الإرث ليكون توجهه معرفيا وذات استقلالية يصبح فيها الابداع الفني على أتم الاستعداد لنشر مبادئ فنه وصياغة منحوتاته التعبيرية، بحيث نجد عقد ربط لا تحبذ الانفصام وهو درس بليغ عن كيفية أن يكون الفنان مسؤولا عن فرضيات وعيه الجمالي والتعبيري. إنه يظهر انتسابا للماضي البعيد، ولكن ما يميزه خطاب وتوجه مغامراته السعي لأبداء فن قابل للتأويل. والملفت بالنسبة لنا تلك المغامرات التي اعتمدها ليؤسس لارتباط حيوي يجمع الفن القديم مع جوهر الحداثة، وبالطبع لم يكتف بالمنحوتات، بل قدم عشرات الأعمال والتخطيطات ذات التوجه التراثيّ البغداديّ وما جعل أسلوبه محصنا هو قوة التناسق مع ما يبديه من طروحات وتصورات حيال الفن عموما، وبموازاة هذا التصرف سعى إلى فكرة تأسيس الجماعات الفنيّة، وكان مثلا على ذلك (جمعية أصدقاء الفن عام 1949) لكن مشاركته الاهم كانت عبر (جماعة بغداد للفن الحديثعام 1951) ويحسب الفضل له في أنه أسس فرع النحت في معهد الفنون الجميلة. 

اعتمد جواد سليم في رسوماته وتخطيطات على البحث والتنقيب في الحياة الاجتماعية، ونظم لنا سيلا من التصورات التي تمتد إلى توظيف البيئة والاجواء اليومية مع العودة لرموز التّراث كالأقواس والأهلة، وفرض في تلك الإشارات التراثيّة قوة ارتباط إضافية بحيث لن نغفل عن فك ارتباطه بالتراث، وهو ما يواكب خطاب الفن يومها.  

لقد تدارك الانزلاق بالحداثة ومقولاتها الغربية وواكب فن يجمع بين الاصالة والمعاصرة ونجح أسلوبه بعد أن أصبح شديد الحساسية بمرحلة انتقالية أسس لها في الفن العراقي مع أسماء أخرى والملفت هنا أنه مع الرعيل الأول من جماعته استعاروا قوة الثقافة في الفن وجعلوا مرجعيات التراث والتاريخ صورة ثقافية وكأنها ضرورة للمواصلة مع الخطاب الفني الجديد ومن نافل القول إن "مخيلة وقوة بصره ما ميز أعماله لتعد ذات وجهة حقيقة في استلهام اليوميات ومراقبة واقع الحياة وتوظيفه فنيا". 

لقد فطن هذا الفنان إلى قوة الابداع، فلم يمثل الوهم والغموض في الرسم، بل لجأ إلى نتاجات مبسطة ولكنها عميق المدلول، وكانت الحاجة الفعليّة -يومذاك- تكمن في التحول الجمالي والتعبيري للرسم الواقعي لمن سبقوه من مؤسسين  للفن العراقي. 

في كل وقت سنحتاج إلى معرفة ما مثله فن جواد سليم من اعتبارات وجدوى لقيمة التحول في الإبداع العراقي المعاصر، نعم كان رحيله المبكر خسارة لن تنسى لمن خبر تاريخ الفن العراقي ولمن فهم مظاهر الرسم الحديث ومهما كانت الفاجعة برحيله المبكر عالقة في اذهاننا، إلا أن الذي يشفع له صدارة أعماله النحتية ورسوماته، وحتى يومياته، فهي محل تقدير عند الغالب من النقاد والفنانين من بعده، لم لا؟ وهو لوحده مدرسة فن تتجدد فيها الاصالة والمعاصرة، ولن يكون من المتعذر نسيانه أو التنصل عن أهمية اسمه الفني.