ذاك المرض

ثقافة 2024/01/24
...

لا قدرة لهم على تسميته،كما لو أنَّ تسميته ستقودهم إليه،أو سينقاد إليهم. ليست لهم الشجاعة على تحديد ملامحه،وآثاره،ونتائجه. خوف سري،يخشى أن يفتضح أمره،أن يشاع بين الناس،حذر من شيء غريب،وعجيب،وكبير.. يتسع إلى مالا نهاية. خشية مكتومة،كما لو أنه فضيحة،لا قدرة لأحد على كتمانها أو إيقاف امتدادها. هذا الحذر انتقل من جيل إلى آخر.. كبير يحذر الصغير،والمرأة تحذر من الرجل،كتمان مقدس،يتفق بشأنه الجميع.. بينما يكون هذا الجميع على معرفة بذاك المرض.. ذاك البعيد الذي يؤمنون به،ويخشون اقترابه منهم.
لم يقل أحد.. ذاك المرض،فتلك إشارة وتشخيص وتحديد،ولا أحد يفكر بالإساءة لأحد مهما كان قدر الجفاف وجفوة الخاطر.. فلا أحد يتمنى أن يكون لصيق ذاك المرض وتلك العاهة،وذاك الشر الثقيل.
همس متداول،وإيماءة فقيرة،وبروح قائمة يقال.. بذاك المرض،ومن يرى هذا المس من الجنون الواعي،مثير للشفقة،ومثير للحذر كذلك.. مع أنَّ الكل يجمعون على أنَّ تلك الشفقة وذاك الحذر لا يلتقيان عند المعونة والمحبة والتعاون والألفة التي يحتاج إليها من كان به ذاك المرض.. ويعلم،يعلم من به ذاك المرض،أنَّ الكل يقاطعونه ويخشونه،لا من طبع الأسى ولا طبع الجناية؛ ولكن من وطأة الخوف أن يبتلي هو الآخر بذاك المرض. يكتم من به ذاك المرض،يكتم أنفاسه،خشية أن يعتقد البعض أنَّ هذه الأنفاس يمكن أن تنقل المرض،ولا يلمس شيئاً،لئلا يعتقد الكثيرون أنه يلوثها بمرض الفاجعة.
لذلك ينكفئ على نفسه.. ويحذرها من الخطأ والخطيئة،من الاقتراب ومن الهس واللمس وحتى الابتسامة. ومع أنَّ الجميع يعرفون أنَّ ذاك المرض لا ينتقل في الجو ولا في اللمس،وإنما هو ميراث صدئ يصاب به المريض ويورثه لأبنائه،أو بلوى تصيب المرء من دون أن تكون له القدرة على تجاوزها..
هو الإرث الوحيد الذي يتخلى عنه الجميع،بل يحذرون منه،ويرفضون أي صلة به. هو اللصيق التدميري الذي يبرأ منه كل امرئ،حتى أنهم باتوا يسألون: هل له إرث يتعلق بذاك المرض؟
وعندما يطمئنون إلى الإجابة،من دون أن يأخذوا ضماناً،خجلاً أو اطمئناناً كاذباً،متخوفاً بالحذر وبين مصدق ومكذب.. ذلك أنه لا أحد يجرؤ على تقديم ضمانة أنَّ ذاك المرض لا علاقة له بمن يريد أن يكون صهراً لأحد،أو صلة بآخر. ذاك مفتون بالجمال،وذاك المرض يقتل تلك الفتنة ويلقي بها إلى جوف التراب.. ما العمل إذن،والكأس قد امتلأت بذاك السم.. أما عن إرث أو بلوى.. ولا فكاك منها أبداً.
قرأ من به ذاك المرض أنَّ العقل الطبي والمعرفي له القدرة على خلق إنسان ذكي،مخلوق يستطيع أن يستجيب لمن يريد،بل ويفكر نيابة عن عقلك في حل المشكلات والأزمات،عقل غزا الأرض ثم غزا السماء،مثلما غزا البحر.. غزوات في سلاح تدميري للبشرية في كل مكان.. أليس في مقدوره الانتصار على ذاك المرض؟
وذهل حين قرأ مرة أنَّ الأطباء لم يكونوا في غفلة عن معالجة ذاك المرض،ولكنهم يؤجلون الحلول دائماً،فوضع حلول قد يعرضهم إلى خسائر مادية عدة. الدواء والمعالجة المستمرة،وأخذ الجرعات بين فترة وأخرى؛ تدر أرباحاً خيالية،تجعلهم في سعادة قصوى وثراء كبير.. ولو أنهم عملوا على مزيد من الاختبارات والتجارب،لتمكنوا من شفاء مرضاهم المصابين بذاك المرض الخبيث..
الأمر مختلف بين أن تعالج وتداوي وتحقن باستمرار،بين إجراء عملية واستئصال العقد الخبيثة وتحقيق الشفاء التام. هذا أمر مضر بالدخل الشخصي و(الوطني) فإذا شفي الجميع ومن يأخذ علاجاً شافياً يتوقف عن أخذ الدواء المستمر.. سيتوقفون عن الشراء،وهذا يسبب أضراراً في الدخل الذي يبهج الروح على حساب ذاك المرض وأولئك المرضى..
هنا أدرك أنه مغفل إن استمر على أخذ علاج دائم والعيش مستسلماً لمرضه ذاك.
انتابه شعور بالتمرد على الطب والأطباء.. فهو لا يريد أن يكون ضحية أولئك الذين يتاجرون بعافيته،وحذر أولئك الذين يريدون إيقاف نزيف الوجع الدائم وثقل المرض الخبيث.. حتى وصل الأمر بهم إلى كتمان الحاجة إلى وضع نهاية لهذه الحال الفظيعة من المرض،وعندما علم كل من كان حوله من الأبناء والأحفاد.. بقراره ذاك،قرار إيقاف العلاج الدائم؛ عدوه جهلاً أو تمرداً أو بخلاً.. في حين لم يكن يعد تلك الأسباب الثلاثة.. أسباباً حقيقية،وإنما هو يتمرد على أولئك الذين يتاجرون بعافيته.
قرر أن يموت وعلى جبينه راية الاستسلام لذاك المرض،ذاك السرطان الخبيث الذي يود من أعماقه ألا يورثه لأحد.. لأنَّ كل أحد يعنيه..
المهم ألا يستجيب لأولئك الذين يخشون على مسراتهم على حساب عافيته.. ليمت بذاك المرض.. ليمت السرطان.. ليمت كما يشاء ويرسم ويتوقع ويريد،فهو صاحب القرار.. قراره أن يموت ميتة تشرف عافية عقله المضيء.. لا عليه من ذاك المرض.. عليه أن يعي أنه يموت على وفق ما يشاء لا على وفق ما يشاؤون.