وكان جلجامش يخاف الموت

ثقافة 2024/01/24
...

جاكلين سلام

كان الخلود حلم البشر منذ أولى أساطير التكوين كملحمة جلجامش التي تحظى حتى الآن باهتمام مفكري الغرب ولأكثر من سبب. وكان الموت دوماً بالمرصاد. كما في المقتطف للباحث دوغلاس ج. ديفيس” وهو كاتب إنكليزي مختص بعلم الأنثروبولوجيا والدراسات اللاهوتية. نقتطف من الكتاب الذي يحمل عنوان: الوجيز في تاريخ الموت، من ترجمة الكاتب السوري محمود منقذ الهاشمي “رأينا هذه المادة البابلية تصف في الفصل الثاني كيف عانى جلجامش في وعيه من موت إنكيدو- صديقه العزيز وصاحبه في المشقّات. فعندما يتبيّن لجلجامش أنه هو أيضاً سوف يموت يروي كيف دخل الحزن قلبه، جاعلاً إياه يهيم في البرية، في تلك البيئة التي برز إنكيدو منها. وهنا، وفي إحدى أقدم العبارات الإنسانية المكتوبة، يقول جلجامش بوضوح: “أنا خائف من الموت.” ومما يستأثر بالاهتمام أنَّ النص يسرد كيف خفّ أساه جزئياً عندما استيقظ من النوم وقد “ازداد سروره بالحياة” بما أنعم عليه القمر بوصفه مصباح الآلهة من إحساس بالقوة. وفي قوته المكتشفة حديثاً يقتل السباع، ويأكل لحمها، ويحفر الآبار ويشرب مياهها، عاكساً على نحو مثير حادثة سابقة كان إنكيدو يحضّه فيها على أن “ينسى الموت ويبحث عن الحياة.” ومع ذلك فإنَّ خوفه من الموت الذي أثاره موت صديقه المحبوب لم يزده إلا سوءاً وهو يتفكّر في فنائه ويبحث عن علاج شافٍ له قبل أن يستسلم لحتميّته في النهاية. ولكن تنمو حكمته عبر أساه، كما ينمو تكيّفه النهائي مع الحتمية متشكّلاً من تقبّله الفناء. وتنبّهنا هذه الأسطورة على أنَّ “الاستجابة الهروبية أو القتالية” ذات العمق الإنساني ليست الشكل الوحيد للاستجابة الإنسانية لسياقات الموت.”
فهل الأسى قرين الحكمة كما الموت قرين الحياة؟ نحن لا نملك من اليقين سوى بعض خبرات الحياة والتجربة. نخاف موت من نحب، ونتقبل الأمر مع مرور الوقت. نكره الحرب والعدوان فتصاب الأبجدية بخسارات كبرى حين يصاب العالم بالعماء الروحي والفكري. فهل تسعفنا الأساطير والأشعار والمزيد من الكتابات لتفسير الوجود!
نضمر المعرفة كما ندثّر قلق اليقين
المسافة الفاصلة بين الحقيقة والحكاية هي السر الذي يدفعنا للاستماع والقراءة والبحث عن المجهول، عن سر ما وراء المتاح لنا من معلومات. ذلك الركن القلق هو نبع الجاذبية وسر الشوق إلى اكتشاف مزامير لم يكتبها ولم يعزفها قلب وعقل بعد. تلك المسافة ما بين العقل والقلب سر آخر كلما أزحنا الظل عنه، ازداد اليقين بأنَّ اللامرئي والمجهول يحثنا على متعة المغامرة لاكتساب المعرفة. نحن نتستر أكثر مما نكشف ونضمر في أنفسنا عن أنفسنا وعن الآخر القريب لأننا حماة الأسرار أو عاجزون عن تحمل تبعات الحقيقة. نضمر المعرفة كما ندثّر قلق اليقين. انكشاف أي سر لا يستوجب العقاب إلا في عين من يرى أنَّ السر المعلن يهدد مهزلة اليقين.
للكتابة الكاشفة سلطة التنوير حين تسود الظلمة. في الواقع كل يفكر حسب مفهومه لمصادر السلطة والقوة والتملك ورغبته في أن يسود أو يستبدّ ما دام الاستبداد يقرّبه من هدفه الذي يتبلور بالإطاحة بمن هم في النهاية على اختلاف في النهج والسلوك والغاية مع حماة الاستبداد والسلطة.
الكشف عن تلك الأسرار من مهام المرأة والرجل حيث يبحث كل عن إجابات لأسئلة ينقصها اليقين. ونستطيع اجتراح الافتراضات عبر الأدب والفلسفة والفنون بكل صيغها. لقد اكتشف انكيدو سر جسدها ورأسها ومقدرتها على ترويضه ونقله من الغابة ورفقة الوحوش إلى المعبد والعيش الجماعي. تبدو مجتمعاتنا تأخرت في استيعاب دروس الملحمة وعلاقة انكيدو وعشتار والبغي وسلطة الآلهة المؤنثة والمذكرة، كل ذلك للوصول إلى الخلاص من الموت.
لقد أهدت حضارة الشرق أجمل الأساطير وأولى الأبجديات، وكانت مهد الحضارات، وللشرق في ذلك مفخرة تبعث على السؤال: متى سيعود الشرق إلى فنونه ويصبح برج الحضارة ومأوى الغرباء والمهاجرين والمنفيين عن أحلامهم وبيوتهم. ولك دوماً حيز أن تختار معركتك مع الحاضر وحروبه، وتختار كتابك والأدوات التي بها تكشف لنا عن سر ما عرفت قبل أن تشرب تلك الكأس وتذهب في طريق اللاعودة.
خلال هذه الرحلة القصيرة سيكون هناك من يدخل حياتك ويخرج منها كما الغبار فيصبح الرأس بدونهم أنقى والبيت أرحب. فلا تجعل وجودك غباراً بل نقطة ضوء وواحة صفاء مهما اشتد الخراب وطغت العتمة على قلب الكون وفي رأسك وذلك يصنع الفرق بين عمل المكنسة والمصباح وأثركَ في انزياح السر عن مكمنه عبر أسطورتك الصغيرة والشخصية.

جاكلين سلام، كاتبة ومترجمة سورية كندية

هامش:
“Douglas Davies ترجمة محمود منقذ الهامشي
يناير 2024